قضايا وآراء

طوفان سوريا وأنفال العهد الجديد

"العيون كلها مصوّبة على المآلات. يشبه الأمر طوفانا حقيقيا لكن هذه المرة بطبعة سورية"- جيتي
دمشق هي قلب العروبة وعز الإسلام، أخت القاهرة وشقيقة بغداد، واسطة العقد والحاضرة التاريخية الكبرى، عاصمة الشام فاستحقت أن تلقب بالشام. القدس وغزة وعموم فلسطين تنتسب إليها جغرافيا، أي صيحة نصر وتكبير فيها هي بارقة أمل لكل العالم العربي، بغض النظر عن الحسابات السياسية وتعقيدات العلاقات الدولية. يكفي أن الأمل والنشاط دبّا في عروق المقدسيين، فرسمت الفرحة على رواد المسجد الأقصى رغم الأسى والحزن بسبب شلال الدماء في غزة.

ورغم ذلك يسود الحذر والترقب في لحظات الألم الكبرى، ويصبح التفاؤل بعيد المنال بعد تجارب سنين عجاف يمر بها العالم العربي من عقد ونيف من الزمان، وقد فقد الجميع القدرة على الاستقطاب والجدال بعد أن أنهكت المعارك السياسة والفكرية كل المتابعين. كشف كل ذلك الأخبار التي تتوالى من الشام وأكناف الشام، ومنها مشاهد السجناء المحررين والأبناء العائدين لأمهاتهم بعد غياب، وهي ليست جديدة في المخيال الجمعي العربي، المهم ماذا بعد؟ العيون كلها مصوّبة على المآلات. يشبه الأمر طوفانا حقيقيا لكن هذه المرة بطبعة سورية.
يسود الحذر والترقب في لحظات الألم الكبرى، ويصبح التفاؤل بعيد المنال بعد تجارب سنين عجاف يمر بها العالم العربي من عقد ونيف من الزمان، وقد فقد الجميع القدرة على الاستقطاب والجدال بعد أن أنهكت المعارك السياسة والفكرية كل المتابعين

الصورة الكلية للمشهد شديدة التعقيد، لكن التفاصيل شديدة البساطة تستحق الاحتفاء. كل مظلوم يتحرر يستحق الاحتفاء به وبحريته، وكل أم تضم ولدها المحرومة منه ظلما تستحق أن نفرح لها، وكل عائد بعد غياب يستحق التكريم. كلنا بهذه لهذه الجرعة من الأمل، خاصة مع النضج الذي أبداه المقاتلون في التعامل مع الناس والمؤسسات. إن التروّي في إصدار الأحكام واتخاذ المواقف صفة حميدة، لكن التوجس وتوقع الأسوأ صفة ذميمة. وبين هذا وذاك يمكن أن نذكر أنفسنا بأخطاء الماضي علّها تكون نافعة لنا ونحن نشاهد المشهد وعكسه على شاشات الأخبار؛ سجن ودماء وأشلاء في غزة خاصرة بلاد الشام الجنوبية، وفرح وتحرير في سوريا شمال بلاد الشام.

أولى هذه الدروس أن المنطق الميكافيلي النفعي في السياسة لا يناسب البيئة العربية والإسلامية التي عانت منه لعقود طويلة. والفرق بين الشعارات والممارسة كان فاضحا، سواء قبل اندلاع الثورات أو بعدها.. قليل من الاتساق بين القول والفعل؛ "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون". ولنا في الخبرة التاريخية الحضارية الإسلامية دروس كثيرة، منها كتاب "سير الملوك" أو "سياست نامة" الذي كتبه الوزير السلجوقي الشهير نظام الملك الطوسي في القرن الخامس الهجري بتكليف من السلطان ملك شاه. وقد جمع فيه بين الحزم والحكمة والأخلاق في إدارة الشئون العامة. وهو ذاته الذي أنشأ المدارس النظامية، تلك التي تخرج منها فيما بعد الإمام أبو حامد الغزالي. فانظر كيف كانت مكانة التعليم آنذاك، ومن كان ينظر له وما موقعه من إدارة الدول.

المجتمع القوي يبني دولة قوية وليس العكس، فكم بنينا من دول قوية عسكريا وسياسا ولكنها لم تصمد أمام نوائب الدهر بسبب إضعاف القوى المجتمعية
ثاني هذه الدروس أن الأنفال والغنائم مفسدة للجميع أي مفسدة، بداية من أنفال التسيد والرياسة والتحكم، مرورا بأنفال المال والجاه. وتزداد فتنة هذه الأنفال مع الأزمات الاقتصادية، ولست متخصصا في الاقتصاد، لكن ما هو مؤكد ومجرب أن غياب مستويات الرقابة والشفافية يفتح الباب مشرعا أمام سوء الظن والسرقات.

ثالث هذه الدروس أن المجتمع القوي يبني دولة قوية وليس العكس، فكم بنينا من دول قوية عسكريا وسياسا ولكنها لم تصمد أمام نوائب الدهر بسبب إضعاف القوى المجتمعية. وسوريا بها مخزون استراتيجي من العلماء والتجار لو أتيحت لهم حركة الحركة لتكفلوا بأن ينقلوا البلاد والعباد إلى مستوى آخر. فيا ليت العهد الجديد يعيد الأوقاف ويسمح لهؤلاء بحرية الحركة ويستثمر فيهم، ويا ليت الخطاب التصالحي مع الطوائف والأديان يشمل أيضا العلماء والدعاء والمذاهب الفقهية والمتعددة.

وختاما، فقد قدم القرآن الكريم التقوى وإصلاح ذات البين على كل الأنفال، فالمبدأ قبل المادة. والسياسة بطبيعتها متقلبة ودوام الحال من المحال، فأحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.

x.com/HanyBeshr