إذا لم يكن الوجود الأمريكي في منبج تدخّلا في سورية، فما عساه يكون. وإذا لم يشكّل حضور رئيس الأركان الروسي في أنطاليا، إلى جانب نظيريه الأمريكي والتركي، اعترافا بذلك التدخل، فكيف يمكن أن يُفهم. لم تصرّ موسكو على تنسيق أمريكي مع بشار الأسد، لكنها لا تزال تتوقّع أو تأمل بأن يحصل.
في منتصف شباط (فبراير) الماضي التقى الجنرالان جوزف دانفورد وفاليري غيراسيموف في باكو، في إطار التنسيق الأمريكي-الروسي «المحدود»، حرص البنتاغون على تأكيد أنهما لم يبحثا في نشر قوات أمريكية (بلغت بضعة آلاف) في سورية، ولم يكن قد حصل لقاء كهذا بينهما منذ كانون الثاني 2014، أي قبل شهر من الحدث الأوكراني.
ومع أنهما أنشأا تنسيقا محدودا لتفادي أي احتكاك جوّي منذ التدخّل الروسي في سورية، إلا أن محاولات تطويره إلى تعاون عسكري واستخباراتي، عبر اتفاق جنيف بين جون كيري - سيرغي لافروف (أيلول/ سبتمبر 2016)، لم تنجح بسبب معارضة البنتاغون والاستخبارات.
في المقابل حاول فلاديمير بوتين توجيه التطبيع الروسي- التركي، بعد الخلاف والقطيعة، نحو تطبيع أو مجرّد تنسيق بين أنقرة ودمشق، وإذ لم يتوصّل إلى إقناع رجب طيب أردوغان اختار أن يستقطب تركيا في مسار آخر، وكان أن قنّنت روسيا تقاربها مع أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» ووفّرت تغطية لعملية «درع الفرات» التي خاضها «الجيش السوري الحرّ»، بدعم تركي، فتمكّن من إنهاء سيطرة تنظيم «داعش» غرب الفرات.
بذلك تكون روسيا سهّلت عمليا التدخّل التركي في سورية واعترفت به، ومع أن الجانب الأمريكي وفّر غطاء جوّيا متقطّعا للعملية لضرب «داعش» إلا أنه لم يبدِ ارتياحا للتنسيق الروسي- التركي خارج اتفاقاته مع أنقرة. وأظهرت التطوّرات الأخيرة معالم التفاهمات أو التقاطعات بين الأمريكيين والروس، إذ تولّوا احتواء الاحتكاكات بين قوات النظام السوري و«الجيش الحرّ»، بعد معركة الباب، وأجازوا للقوات «العربية- الكرديّة» تسليم قرى جنوب الباب إلى قوات الأسد. وفيما كان أردوغان يؤكّد أن المعركة التالية ستكون لإجلاء الأكراد من منبج، إذا بقوات مدرّعة من «المارينز» تتمركز في المدينة قاطعة الطريق على الطموح التركي.
في اجتماع أنطاليا بدا الجانب الأمريكي حاسما في عزمه على الاعتماد على القوات الكردية لقتال «داعش» في الرقّة، فمع أن لديها أجندة خاصة إلا أنها تحت إمرته ومرتبطة بدعمه. وإذ بدا أن الروسي متفهّم لهذا الخيار، لم يتضح الموقف الأمريكي من العلاقة المؤكّدة بين نظام الأسد و «حزب الاتحاد الديموقراطي»، لذلك انطلقت تحليلات متسرّعة للجزم بأن الأمريكيين مقبلون بدورهم على صيغة ما للتعاون مع النظام استجابة لضرورات تحرير الرقّة، وقد يُقدِمون على تعاون كهذا لكنهم لا يريدون أن يكون تعاونا غير مباشر مع الإيرانيين.
كل ذلك يعني أن ثمة توافقا أمريكيا– روسيا غير مصرّح به على عدم إشراك تركيا في هذه المعركة مع رسم حدود تدخّلها، وكذلك عدم إشراك إيران، ما يطيح طموحا مهمّا لها للبدء بتحقيق التواصل على خط طهران - بغداد - دمشق - بيروت.
بقيت هناك نقاط غير محسومة تستغلها أنقرة، خصوصا بعد لقاء بوتين- أردوغان، بمواصلة الإصرار على انسحاب الأكراد من منبج حتى لو تطلّب ذلك تسليمها إلى قوات الأسد. وتستغلّها طهران بالإلحاح لدى موسكو ليكون لها دور، كذلك الأسد الذي يرى أن الترتيبات الجارية تتجاوز دوره ونظامه، فيكرّر اعتبار الأمريكيين والأتراك «غزاة»، طالما أنهم لم ينسّقوا معه. وتطالب روسيا علنا بالتنسيق فيما تتعايش جيدا مع «الغزاة»، بل تمنحهم مشروعية.
فالمتوقّع تزايد القوات الأمريكية شمال سورية، وتأكيد قادتها أنها باقية لفترة مفتوحة بعد تحرير الرقّة. وبهذا التوجه لدى إدارة ترامب، تحت راية «دحر داعش»، لم يكن لدى بوتين ما يقدّمه لأردوغان في خلافه مع واشنطن سوى إقناعه بتغيير معطيات الوضع ودفعه باتجاه تقارب مع دمشق، لكن الرئيس التركي مدرك أنه لن يكسب شيئا من هذه الخطوة الرامية فقط إلى اجتذابه أكثر نحو روسيا ومفاقمة مشاكله مع أمريكا.
على رغم أن إيران لم تتناول اللقاء العسكري في أنطاليا، إلا أنها تعتبر أنه منطقيا! ما كان يجب أن يتمّ من دونها، وأن هناك حلقة مفقودة في تخطيطها لحصد ثمار تدخّلها، فهي لم تتأهّل دوليا كما تهيّأ لها (وكما زيّنت لها إدارة أوباما) غداة التوقيع على الاتفاق النووي، وليس لها في أي حال أن تتخيّل قائد «الحرس الثوري» أو «فيلق القدس» رابع الجنرالات الثلاثة. قد لا يكفي ذلك لدفع إيران إلى مراجعة سياساتها وتغييرها، لكن الأمر يتعلّق بالمكانة التي تتصوّرها إيران لنفسها في المنطقة، وبالاستراتيجية التي بنتها على أساس توظيف القوى الدولية الكبرى لخدمة «تصدير الثورة»، وكذلك بالأدوات (المليشيات) التي أنشأتها وتستخدمها لتنفيذ مشروعها وهيمنتها.
ذاك أن الفارق بين الدول الإقليمية كافة أن إيران لديها أطماع في البلدان التي اخترقتها ولم تتردّد في تخريبها ودفعها إلى هاوية التقسيم، ولا يضاهيها سوى إسرائيل في الأطماع والتخريب ونيات التقسيم، أما السعودية ومصر وحتى تركيا فلا مشكلة لها مع أي حلول للأزمات اذا كانت تضمن عيش السوريين والعراقيين واليمنيّين وتعايشهم في بلدانهم، ولو متصارعين سياسيا من دون تذابح أو شحن طائفيين.
أكثر من أي مرحلة مضت، تبدو معالم المشهد السوري الآن أقرب إلى رقعة شطرنج في الحركة ما قبل الأخيرة، ولا تزال نهاية اللعبة غير واضحة. وعلى غير المألوف يخوض اللاعبان الأمريكي والروسي المواجهة متنافسَين – متواطئَين، لا يباليان بمكانة أي قطعة وفاعليتها، فكلّها عندهما بيادق سواء كانت دولا، نظاما وشعبا، أو تنظيما إرهابيا. كانت تركيا وإيران تعتقدان أن اللاعبَين لن يمسّا بدوريهما لأنهما «الملِكَتان» البيضاء والسوداء على الرقعة وتحمي كل منهما أحد «الملِكَين» (الشعب والنظام)، فإذا بالأولى تعاني احتواء مربكا وبالأخرى تترقّب بداية تهميش قد يتحوّل إقصاء.
كل ما يأمله الأسد ألا يكون أحد البيدقين المرشّحين للقتل، طالما أن معادلة «الأسد أو داعش» هي التي غيّرت مسار اللعبة، وحلمه أن يعود النقطة التي تتقاطع عندها مصالح اللاعبَين، وقد لا تكون حساباته مخطئة هنا، فواشنطن ترامب لا تستهدفه، وروسيا لم تضغط عليه لاحترام وقف إطلاق النار بل تشاركه خروقاته وتمارس أشد الضغوط على الفصائل المسلحة لإخلاء الجبهات المتبقية تحت سيطرتها، كما حصل أخيرا في حي الوعر بحمص، وكما بات متوقّعا في الغوطة الشرقية.
لكن تفريغ مسار أستانة من جدواه، وإبقاء مسار جنيف بلا تفاوض جدّي، مع استعدادات متسارعة لمعركة الرقّة تليها دير الزور مع دور مؤكّد لقوات النظام، تكون أمريكا وروسيا عادتا واقعيا إلى رسم خريطة «سورية المفيدة» الموسعة، كما لم يتخيّلها الأسد ولا الإيرانيون، بمعزل عن جيوب عدة في الشمال والجنوب. عشية الذكرى السابعة للانتفاضة الشعبية، يبدو هذا سيناريو لإدخال سورية في نفق جديد، مع حكم استبدادي «منتصر» لم يفقد شيئا من قدراته الإجرامية.
ثمة حلقة مفقودة تتمثّل في الخواء السياسي وحتى الإنساني، وتبدو الدولتان الكبريان متقاعستَين في بلورتها وممعنتين في إهمالها، بحجة انتفاء البدائل. لكن، اذا كان ستيفان دي ميستورا المعروف بانحيازه للنظام يعتقد بأن الانتخابات غير ممكنة بوجود الأسد، فلا أحد يستطيع الإقناع بأن إعادة السيطرة إلى الأسد تعني إنهاء الصراع أو يمكن أن تكون عنوانا للاستقرار.