قبل أكثر من عشرين يوما كتبتُ في صحيفة "عربي21" مقالة بعنوان "مقاربة ترامب العربية.. سيناريو محتمل"، رجحتُ فيها أن تعمل إدارة ترامب على خلق محور إقليمي، عربي بالدرجة الأولى، لمواجهة إيران، يدفع العرب ثمنه من القضية الفلسطينية، كما هي العادة، وبدمج "إسرائيل" في هذا المحور، تعزيزا لنفوذها الإقليمي، وتكريسا لوجودها في المنطقة.
تصورتُ ذلك السيناريو بقراءة الاتصالات التي أجراها ترامب بالمنطقة عقب استلامه مهامه، إذ بدت أبعد عن ارتجاليته التي باتت معروفة، وأقرب إلى السياسات التقليدية للمؤسسة الأمريكية بخصوص منطقتنا العربية، والتي ورغم صراع أجنحة منها مع الرئيس الجديد، إلا أن فيها من يمكنه استثمار لحظته لإعادة صياغة السياسات الأمريكية في المنطقة، وقد بات في حكم المؤكد أن ثمة نفوذا إسرائيليا متحققا في هذه الإدارة الجديدة.
قليل من الوقت مضى على تلك المقالة، حتى كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن تحالف إقليمي، يقترحه ترامب، ويضم دول ما كان يعرف بمحور الاعتدال العربي المعروفة، مصر والأردن والإمارات والسعودية، بالإضافة إلى "إسرائيل"، وتكون مصر مقره.
هذا المعنى، أكد عليه نتنياهو أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه بترامب، في واشنطن، بقوله إن الدول العربية لم تعد ترى "إسرائيل" عدوا، وإنما تراها حليفا، وإن السلام يمكن تحقيقه في المنطقة بصفقة إقليمية شاملة، تضم شركاء "إسرائيل" من العرب.
في المؤتمر الصحفي ذاته، قال ترامب ما هو أهم من كلامه عن حل الدولة الواحدة وحل الدولتين، والذي يبدو أنه لم يكن يقصده تماما، إذ تحدث عن اتفاق "أكثر أهمية على الأرض"، "سيشمل الكثير والكثير من الدول، وسيغطي منطقة شاسعة".
الصفقة الإقليمية التي يجري الترتيب لها، تدور على محورين أساسيين، الأول منهما، مواجهة إيران، بعدما سمح لها بالتمدد الذي أحاط بالجزيرة العربية وضغط على عصب القلق الاستراتيجي العربي، والثاني منهما، تسوية القضية الفلسطينية، ابتداء من رفع درجة التطبيع الباطني مع "إسرائيل" إلى مستويات علنية، والضغط على القوى الفلسطينية المختلفة، لإنجاز التسوية التصفوية المطلوبة، والقائمة على ضمان وجود إسرائيلي واسع في الضفة على نحو يجعل الدولة الفلسطينية فيها غير ذي معنى.
هذه الصفقة، هي إسرائيلية بالدرجة الأولى، أكثر من كونها أمريكية، فالفاعل الرئيس في المنطقة، الذي يفرض وقائعه على الأرض، هو "إسرائيل"، وقد تبين هذا تماما بالتسريب الذي كشفته صحيفة هآرتس أخيرا عن اجتماع سري التقى فيه قبل عام في العقبة وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كري بكل من نتنياهو والسيسي والملك الأردني عبد الله الثاني، وقدّم فيه كيري رؤية أمريكية للحل، رفضها لاحقا نتنياهو، بالرغم من الضمانات الهائلة التي قُدمت لـ "إسرائيل" في تلك الرؤية، بما في ذلك الاعتراف بيهودية "إسرائيل"، وسيطرة إسرائيلية واسعة في قلب الضفة ومحيطها.
صحيح أن السياسات الإسرائيلية لا تخلو من دوافع المزايدة الداخلية، حتى فيما تعلق بالصراع مع العرب والفلسطينيين، ولكنها تظل تستند إلى قواعد أساسية في هذا الصراع، منها في الحد الأدنى ضمان وجود إسرائيلي استراتيجي في الضفة، يتصاعد إلى حد أعلى مع اليمين الإسرائيلي بجعل إمكانية قيام دولة فلسطينية في الضفة شبه محالة، وهو الأمر الذي يدفع "إسرائيل" لفرض تسوية مختلفة تماما، لم تزل تعمل عليها بمثابرة ودأب.
هذه التسوية تقوم على مرتكز مركب، وهو دمج "إسرائيل" في المنطقة، دون أن تتخلى عن سيطرتها الكاملة على فلسطين الانتدابية من بحرها إلى نهرها، وهو أمر يتطلب -كما قال كل من نتنياهو وترامب أخيرا- إشراك العرب في هذه التسوية، وبحسب ما كشفته هآرتس عن الاجتماع السري في العقبة قبل عام، فقد طالب نتنياهو من إدارة أوباما، أن تفرض على الإمارات والسعودية تصعيد تطبيعهما إلى العلن، والسماح لـ "إسرائيل" بتوسيع مستوطناتها القائمة في الضفة.
يجري الآن، الاستفادة من انقلاب عبد الفتاح السيسي الذي صار الدور الإسرائيلي في تصنيعه في حكم المؤكد، والاستفادة من القلق السعودي البالغ تجاه التمدد الإيراني، والبناء على العلاقات التطبيعية القائمة في الأساس بين كل من مصر والأردن و"إسرائيل"، وبدرجة أقل علنية الإمارات، والاستثمار في حرب هذه الدول على التيار الإسلامي، ومحاولتها احتواء نتائج الثورات العربية.
لحظة ترامب مواتية جدا بالنسبة لـ "إسرائيل"، إذ يمكن إقناع هذه الدول بالصفقة، أو ببعضها، بممارسة "إسرائيل" نفوذها على إدارة ترامب، لانتهاج سياسات مغايرة لتلك التي انتهجتها إدارة أوباما وأزعجت بعض تلك الدول، ولاسيما بخصوص إيران، وفي المقابل سوف توافق تلك الدول على خطة "إسرائيل" لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
هذه الخطة سابقة على لحظة ترامب، فتهيئة الأجواء لضم الضفة، وإقامة دولة فلسطينية في غزة وسيناء؛ تتضح منذ أربع سنوات، ومحاولة فرض قيادة فلسطينية بديلة قريبة من المحور العربي الذي يفترض أن يكون حليفا لـ "إسرائيل" تجري منذ فترة.
السياسات الاستيطانية في الضفة تسير في هذا الاتجاه، وكذلك السياسات الإسرائيلية تجاه غزة، وإقليميا يتكشف بالتدريج التواصل العربي الإسرائيلي الذي تستثمر فيه "إسرائيل" خوف العرب من إيران، والمفارقة أن كل هذا التواصل العربي الإسرائيلي غير المسبوق يأتي في ظل أسوء حكومات اليمين الإسرائيلي على الإطلاق!
في دفع هذه الخطة نحو غايتها، تقوم "إسرائيل" بوسائل متنوعة، ببث العديد من التسريبات، منها الإلحاح على العلاقات السرية العربية، وفضح الاجتماعات التي تجري في الخفاء وفي أعلى المستويات، والكشف عن الخطط المعدة لتصفية القضية الفلسطينية، كمشروع دولة (غزة- سيناء)، وعلى الأرجح فإن ذلك يأتي لتهيئة الأجواء العربية لقبول هذه الصفقة، إذ لا يمكن أن تأتي التهيئة المباشرة والصريحة عن طريق العرب المتحالفين معها سرا.