مدونات

عندما يحكم التاريخ

عمر المختار


ما بين الجهاد والاحتلال رؤوس ترفع ورؤوس تداس، فما بين مجاهدنا الذي أفنى حياته يناضل من أجل دينه و وطنه، فيعدمه المحتل شنقا ويموت مرفوع الرأس فيسطر التاريخ اسمه بحروف من نور وتتناقل الألسنة طيب ذكره، وبين قاتله ذاك الديكتاتور المجنون بداء العظمة الذي أرهب حتى شعبه فأعدموه شنقا من قدميك، ذلك لأن التاريخ رأى أن رأسه لا تستحق أن ترفع وأن ذكره لا يتجاوز مزبلة التاريخ.

أسد الصحراء (عمر المختار) وأبو الفاشية (موسوليني) قصة تروي لنا الكثير عن أثنين ربط التاريخ بينهما رغم أنهما على النقيض فهما كالأبيض والأسود كالخير والشر يبرز التضاد بينهما جوهر كلا منهما، فرغم تشابه ظروف نشأتهما إلا أن الخلاف بينهما كبير فكلاهما ولد بقرية بسيطة، كلاهما تلقى تعليما دينيا، هذا هو الشبه الوحيد بينهما ثم كانت باقي حياتهما على النقيض تماما، فتعالوا نرحل داخل سراديب التاريخ لنكتشف كيف ينصف التاريخ أحيانا من ظلمتهم الحياة.

الفصل الأول (حياتهما)

ولد عمر في أغسطس 1858 وتعلم بمعهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم ، لفت المختار انتباه شيوخه، الذين كانوا يشرفون على تعليم وإعداد المتفوقين ليعدّوهم لحمل رسالة الإسلام، ويرسلوهم بعد ذلك إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا لتعليم الناس مبادئ الإسلام وتعاليمه.

لمع نجم المختار عند شيوخ الحركة السنوسية، فقرَّر محمد المهدي السنوسي ثاني زعماء السنوسية  أخذ عمر المختار معه في رحلاته بين قبائل الصحراء الليبية، ثم عينه في سنة 1897 شيخاً لبلدة تسمى زاوية القصور والتي عرف عن أهلها شدة البأس وصعوبة الانقياد، ولكن المختار استطاع أن يقود قبيلة العبيد التي لعبت دوراً رئيسياً في الجهاد. 

ولد موسوليني عام 1883 ومُنع من دخول كنيسة والدته لسوء سلوكه، حيث كان يرمي رواد الكنيسة بالحجارة فأدخل إلى مدرسة داخلية يديرها رهبان ساليزيون، هاجر إلى سويسرا هرباً من الخدمة العسكرية، وفي من عام 1902، قُبض عليه بتهمة التشرد حين كان قابعاً أسفل جسر هناك، ثم صار يُلقي محاضرات ذات طابعٍ سياسي ما بين جنيف وفرنسا يدعو من خلالها على إسقاط الديمقراطية الليبرالية، والرأسمالية باستخدام العنف.

في عام 1910 تَعَرّف على الزعيم الاشتراكي “غوليالمو كانيفاشيني”، حين كان يقيم في سويسرا ويعمل كعامل بناء هناك.

سعى موسوليني إلى نشر أفكاره التي تضمنت الإلحادية واحتوت على مفاهيم جديدة للاشتراكية تعتمد على الفوضى، وإثارة المشاكل، كما هاجم رجال الدين، والكنائس، ودور العبادة والأديان كافة، ووصل الأمر لمهاجمة المسيح نفسه، فأمر رجال الدين بسويسرا بطرده.

عاد لإيطاليا وأسس موسوليني الحزب الفاشستي الذي كان يهدف لمواجهة مشاكل إيطاليا. فاتّبع سياسة العنف، وأسلوب أفراد العصابات ،تمكن موسوليني من دخول البرلمان في عام 1921، فشكلت الفاشية فرق مسلحة من المحاربين القدامى لإرهاب الفوضويين والاشتراكيين والشيوعيين، واصبح رئيس وزراء سنة 1922.

الفصل الثاني (جهاده ضد المحتل)

عام 1900 غير كثيرا في اتجاه مجاهدنا، فبعد أن كان جهاده مقتصرا على توصيل الدين صار جهاده مسلحا أيضا فقد وكل للشيخ المجاهد بجانب الدعوة بتشاد قيادة الكتائب السنوسية هناك ضد الاحتلال الفرنسي، ولكن بوفاة محمد المهدي السنوسي في عام 1902تم استدعاء عمر المختار إلى ليبيا وعاد مرة ثانية شيخاً لبلدة زاوية القصور، ولكن لم يخلع المختار ثوب الجهاد بل  قاتل جيوش الانتداب البريطاني على الحدود المصرية الليبية، حتى جاء عام 1911 وأنزلت إيطاليا جنودها في بني غازي، فجمع 1,000 مقاتل وأسس المختار معسكر اً خاصاً له وأنضم له الكثير من المقاتلين الآخرين، وأصبح المعسكر قاعدةً لهم يغيرون  منها على القوات الإيطالية.

ظل الشيخ الخمسيني يقاتل جنود الاحتلال على مدار 20 عاما أذاقهم من الويلات مالم تراه إيطاليا على مر تاريخها، وقد استفاد كثيرا من خبرته في حرب الفرنسيين بتشاد كما أفادته علاقاته بالقبائل و خبرته بدروب صحراء بلاده فطوع تلك البيئة لتحارب معه ضد مغتصبي الأرض. 

الفصل الثالث (الديكتاتور يحكم)

- قام بإلغاء كل الأحزاب الأخرى، فكان على الشعب أن يصوت للحزب الفاشيستي فقط.
- كان الفاشيون ينظمون غارات على المزارع المعروفة بأنها اشتراكية فيقتلون الناس أو يعذبونهم.
- سيطر على الأدب والفن بزعم تحرير الثقافة الإيطالية وتوحيد أشكالها لتتطابق مع فكر الدوتشي.
- أغلقت جميع الصحف والمجلات الأدبية.
- امتلأت الساحات والشوارع بتماثيل موسوليني مع إجبار الناس على وضع صورة في غرف النوم.

صارت إيطاليا سجنا كبيرا لا يخرج منه أحد إلا للقتال مجبرا لتحقيق حلم الدوتشي في أن ينشئ إمبراطورية تمتد من الحبشة إلى ساحل غينيا الغربي.

رأى ان سياسة إيطاليا بليبيا تتسم باللين فعين السفاح غراتسياني فقتل أكثر من قتل 200,000 ليبي على مدار 3 سنوات ليقضي على المقاومة قبل اعتقال عمر المختار وإعدامه.

الفصل الرابع (السفاح لا يرحم)


أجهد الشيخ المجاهد ورجاله جيش إيطاليا، فحولت إيطاليا ليبيا لأكبر معسكر اعتقال عرفه العالم كله، فأحاطت الأهالي بالأسلاك الشائكة المكهربة، وعلقت المشانق ليل نهار، وصارت الطائرات تقذف القنابل ذات الغاز السام المحرمة دولياً، وقصف المدفعية لا يتوقف، لم يرضخ المختار ورجاله، ولم ينبطح الشعب الليبي الذي كان كله تحت قيد الاعتقال والتعذيب.

وهذا ما أصاب غراتسياني قائد القوات الإيطالية بالجنون فكانت صرخاته المتوعدة لا تتوقف عندي لكم ثلاث حالات: 
-الباخرة الموجودة في الميناء( أي النفي إلي الجزر الإيطالية النائية).
 -وأربعة أمتار فوق الأرض (المشنقة).
-ورصاص بنادق جندنا (الإعدام رمياً بالرصاص).

الفصل الخامس (المواجهة والأسر) 


المشهد الأول

في  1930 وبينما غراتسياني بإيطاليا يتوارى من الألسنة التي تتهمه بالفشل في السيطرة على ليبيا، تصله برقية من بني غازي، لقد وقع المختار بالأسر، بعد معركة أصيب فيها بكسر بيده أعجزته عن تناول سلاحه، فعاد غراتسياني مسرعا  ليرى بعينه عدوه الذي أذاقه ذل الهزيمة وليتأكد أنه حقا صار أسيره.

المشهد قبل الأخير

حيث يقبع غراتسياني خلف مكتبه يراقب الباب يقتله الفضول لرؤية عدوه  فيدخل عليه بهدوء وثبات شيخ يجر سلاسل القيد بأقدامه وبيديه المكسورة، يقول غراتسياني في كتابه:

عندما حضر أمام مكتبي تهيا لي أن أرى فيه شخصية الأف "المرابطين" الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية، رجل ليس ككل الرجال له منظره وهيبته رغم انه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقفٌ أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوتٍ هادئ وواضح بأنه حاربنا من اجل دينه و وطنه لأننا مغتصبون، فيأمر غراتسياني بإرجاعه للسجن وعرضه للمحاكمة.

الفصل الأخير (الإعدام)

هنا سيجتمع الضدان أمام نهايةُ واحدة هي الإعدام ولكن  شتان بين وقع تلك الخاتمة على الشعبين.

فهنا وقف الشيخ السبعيني الذي أفنى حياته وهو يقود  شعبه ليحررهم  ويحرر أرضه من  مغتصب يقف شامخا معترفا أمام أعداءه بحربه لهم، وأنه لم يفكر بالهروب أبدا عبر الحدود.

على الجانب الأخر يقبع الديكتاتور بعد أن قاد بلاده للهزيمة والاحتلال فيرسل وسطاء بينه وبين الشعب الغاضب لأجل إنقاذ رقبته من الموت، فيرفض طلبه فيحاول الهروب عبر الحدود متخفيا فيتم القبض عليه.

كانت محكمة المختار الهزلية في 1931والتي مُنع حتى الدفاع الذي عينه الاحتلال أن ينطق بحرف يدافع به عن موكله فقال لهم: "عليكم أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إنَّ عجلته تدور وتسجّل ما يحدث في هذا العالم المضطرب" لكنهم لم يحذروا وحكموا بالإعدام.

فدارت عجلة التاريخ وفي عام 1945 يأمر مجلس جبهة التحرير الشعبية بإعدام موسيليني دون  محاكمة.

في  ليبيا جمع المحتل ألاف من الليبيين من المعتقلات وأجبروهم على مشاهدة إعدام شيخ المجاهدين، أُحضر المُختار مُكبَّل الأيادي  وبمجرد وصوله أخذت الطائرات تحلق منخفضة لمنع الأهالي من الاستماع إلى المختار إذا تحدث إليهم، وتم تنفيذ حكم الإعدام وهو يقف بشموخ ، ولكن سبقت أوامر شديدة الحزم بتعذيب وضرب كل من يبدي الحزن أو يظهر البكاء عند تنفيذ الحكم، ورغم ذلك علت صرخت احدى النساء متحدية لتكسر جبروت الطليان وتنعي المختار أسد الصحراء  ولو أن العدل أن تشبه الأسود بالمختار لا يشبه هو بها.

أما  الديكتاتور فأعدم وعلق من قدميه وظلت جثة موسوليني وعشيقته معلقة لأيام يمر عليها الإيطاليين ليلعنوه وفقد الجماهير السيطرة على أنفسهم فأخذوا بإطلاق النار على الجثث.

هنا تحقق لموسوليني مقولته "ان التاريخ لا يرحم وانه يسجل ما يدور" نعم لقد سجل التاريخ له كل شيء".

لذا أبى التاريخ أن يتساوى القاتل والمقتول في وقفت  النهاية، فهناك رؤوس ينحني لها التاريخ إجلالاً ،ورؤوس  تنكس من خزيها.