قضايا وآراء

من أخبار الحقائق ووقائع ما جرى

1300x600
في عام 1098م، سقطت القدس بأيدي الصليبيين، استمرت الحروب الصليبية قرنين من الزمان، وفي نهاية الأمر فشلت، سيحدثنا العلامة د/ عبد الوهاب المسيري بعدها عن الرعب الكامن في العقل الإسرائيلي من نموذج فشل الإمارات الصليبية التي استمرت مئتي عام.

لم يرضهم هذا الفشل مع توافر إمكانية وظروف قيام الأسد الجريح ثانية، فاتصلت البابوية بخاقانات التتار، ودار بينهما حديث مكتوم حول خطورة هؤلاء الذين يسجدون لإله واحد أحد.

فتحرك هولاكو، وأحرق بغداد عام 1254م (سيتكرر ذلك عام 2003م)، ومن بعده أحرق تيمور لنك دمشق 1400م (سيأتي بوتين في 2015م بأساطيله وطيرانه لحرق سوريا كلها).

امتد ذلك، واستمر بكل آثاره الاجتماعية والسياسية والفكرية من القرن التاسع حتى القرن السادس عشر. خلالها نشأ حلف خطير بين الشعوب الإسلامية والمماليك (المقاتلون الأشداء القادمون من بلاد البخاري والنسائي والترمذي)، وقام فقهاء أهل السنة على توثيق هذا الحلف (صونا للدين والعرض) 

خلال هذا الحلف، أنتج الفقهاء مفهومين شرعيين/سياسيين من أخطر المفاهيم التاريخية على قلب وعقل الأمة وصرحها الحضاري (ستستمر معنا حتى اليوم) هذين المفهومين هما تحريم الثورة وجواز إمارة المتغلب.. وعجزوا عن إدراك ما ينبغي إدراكه عن العلاقة الوطيدة بين القوه الروحية والقوة السياسية؛ إذ كما يقولون إن الأفكار تؤثر فيها القوة السياسية لتصبح أكثر تقبلا وتعقلا، وتؤثر فيها القوة الروحية لتصبح أكثر قيمة ومعنى.

سيستمر حكم المماليك ثلاثمئة عام، سيتم خلالها تجميد كل شيء؛ حفاظا على استقرار الداخل المهدد من الخارج، وتعطلت الأمة تماما، وتجمدت فيها كل مفاعيل الحركة والإنتاج.

في القرن السادس عشر، انتقلت الخلافة شرعيا وسياسيا إلى الأتراك العثمانيين، الذين وجدوا المفهومين السابقين جاهزين على أرفف التاريخ، فاعملوهما بإحكام حاكم وشدوا وثاق الأمة برباط الخوف والخضوع والمركزية، بعدها سيخرج مفكر عروبي (عبد الرحمن الكواكبي) ليهاجم بضراوة هذين المفهومين، مفهوم تحريم الثورة (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ومفهوم جواز إمارة المتغلب (أم القرى) لكن الوطأة كانت أشد من كتابين كتبهما مفكر.. وعاش الناس مجتمع زمنهم خانعين خاضعين. 

المعتذرون عن الخلافة العثمانية يقولون إنها قامت على حماية الأمة لمدة 400 عام، لكن أحدهم رد قائلا إن أوروبا الصليبية كانت منشغلة خلال هذا الزمن (بالمخاض العظيم): استيطان أمريكا والإصلاح الديني. ويتساءلون في دهشة مروعة عن سقوط غرناطة 1492م، في الوقت الذي كان يملك العثمانيون فيه أقوى جيش بري وبحري في العالم.. وردوا الوفود العربية التي أتت من إسبانيا إلى القسطنطينية تطلب العون والسند. سيسفر المخاض العظيم عن بروز أوروبا القوية بأنياب استعمارية وأفكار وحشية بالغة الشراسة تتحدث عن عبء الإنسان الأبيض في تحضير باقي البشر، ولم يكن إلا استكبارا واغتصابا وقتلا وهلاكا، بعد ذلك تمت المساومات على أقطار الأمة قطرا قطرا.

بنهاية الحرب العالمية الثانية (1945م)، يخرج الاحتلال ويترك مكانه نواة صلبة من لحمته وسداه، اختار لها مكانا مرعبا (فلسطين) وأوجد لها ذريعة أكثر رعبا (عودة المسيح) ووعي تماما دور المماليك في تعطيل حضارة الأمة بثقافة العسكرة ومفاهيم السلطة المركزية القابضة، لكن المماليك كانوا مع ذلك (ركن الدين وفخر الدين..)، فتم البحث عن مماليك جدد (ضد الدين وحرب الدين)، فكانت الانقلابات، وكانت الدولة القطرية الحديثة، التي تأكد لنا بأنها مشروع لئيم مخادع أنتج كل أشكال الفشل حتى وهو يطلق أطيب النيات والتمنيات.

وتنطوي صفحات التاريخ صفحة تلو صفحة بمراحله الواصلة والفاصلة، يسلم بعضه بعضا، وتبقى من الهزائم مرارتها وعبرتها، ومن الانكسار مهانته وتجربته ومن التردي خضوعه وتحذيره. 
وتبقى حقيقة الحقائق التي ما غفل عنها أحد، ولكن اختلفت الدروب إليها وهي (تغيير ما بأنفسهم..) ونفس الأمة هم الناس؛ علماء ومفكرون ونخب وفقهاء ومثقفون وفلاحون وعمال وطلبة، هم العامة والبسطاء سواد الأمة الأعظم الذين (يحرسون الطريق ويطفؤون الحريق وينقذون الغريق) .

وتتأكد لنا كل يوم عبرة التاريخ (مخزن الاعتبار)، لتقول إنه لكي يعود للأمة مجدها وعزمها ويقام بين الناس دينها يجب أن يكون المجتمع أقوى من الدولة والسلطة، وقوته لا تكون بالصيحات والشعارات، قوته تكون بالتربية والمعرفة والتنظيم. قوة الأمة تتجلى في قوة أبنائها دينا وعلما وثقافة وخلقا، ووقتها ستضطر أدوات وأجهزة الدولة الكاسرة أن تكون مجرد أبنيه إجرائية وتنفيذية تخدم الأمة، ويتناوب عليها أبناؤها حاملين معهم كل أخلاق الصلاح وكل ثقافة الإصلاح.