كتاب عربي 21

متسول... وهلفوت

1300x600
يجلس حسنين البرطوشي منزويا وحزينا داخل مكان تجمع زملائه في "الشغل".  يقترب منه خليل..
خليل الغبي: انت مالك يا حسنين؟ مش في الفورمة يعني؟ وبعدين ده الدنيا احلوت والشغل بقا هناء.
حسنين البرطوشي: شغل؟ شغل ايه يا خليل؟ هو انت فاكرنا بني آدمين؟

خليل الغبي: ومال احنا حلاليف؟ طبعا بني آدمين. الدنيا دلوقت اتغيرت والجدع ايلي يطلع قرش من جيب الناس.. ومادام احنا مش حرامية يبقى احنا اجدع ناس.

حسنين البرطوشي: اجدع ناس.. اجدع ناس منين يا خليل؟ طب احنا نقدر نتجوز ونبقا بني آدمين؟

خليل الغبي: طبعا يا جدع.. اي واحدة بتاعت غرزة ولا بتبيع حمص في الشارع تتمناك.

حسنين البرطوشي: غرز ايه يا خليل؟ أنا عايز أبقى محترم. عايز الناس تفتخر بيا. 

خليل الغبي: محترم؟ محترم ده ايه. اوعى تكون مصدق الشياكة ايلي انت فيها ده؟ ده ديكور احنا عاملينه.. انت من برا هلاهلا ومن جوا يعلم الله.. انت شحات.. شحاااات ولازم تعيش على أنك شحات..

قبلها، كان خليل قد التقط حسنين من داخل مسجد آوى إليه لاتقاء الشارع حيث وجد نفسه بعد وصوله إلى القاهرة من الصعيد. ولأن "الشغل" يستلزم حالات إعاقة أو احتياج خاص، كاد حسنين يفقد أحد أعضائه لولا تدخل "الدكتور" جمعه الذي بادر باقتراح بديل وفق "نظرية فلسفية" حاول من خلالها إحداث ثورة في عالم "الشحاتة"

الدكتور جمعة: اخرس. انت بتكلم أكبر خبير للشحاتين في البلد. بتكلم شخصية.. أستاذ النماذج. توقف قدامي كويس.. اقعد.. اوقف.. اقعد.. اوقف..اديني نظرة شمال..
حسنين البرطوشي: اديها لك فين؟
 الدكتور جمعة: اديني نظرة شمال.. اديها لي شمال. لف لفتين.. شكله كويس.. مش بطال.. ده تعملوه 2112.. انت نظام ارحموا.. ارحموا عزيز قوم ذل..

يلبسه الآخرون بذلة ونظارة سوداء وحذاءا جديدا، لينطلق في رحلة التسول من أوسع أبوابها.
يواصل الدكتور جمعة، أستاذ النماذج وفيلسوف "الشحاتة".

الدكتور جمعة: هو ده نظام ارحموا.. ارحموا عزيز قوم ذل.. واقف ع الناصية برنس، واقف بشموخ ورافع راسه فوق.. ايوه، زي البرنسات ومادد ايدك.. وثق أنك حتسمع الناس وحتشوفهم بعينيك حواليك بيعيطوا وبيقولوا ابن ناس.. ده من عيلة.. ده متأصل وبدل ما يدوك شلن حيدو لك عشرة.

والمشهدان من فيلم (المتسول – 1983) للمخرج أحمد السبعاوي وبطولة عادل إمام. تألق "حسنين" في عمله الجديد وصار ذا شأن له كلمته المسموعة وشروطه في مجتمع "الشحاتين" قبل أن يواجه الواقع المر الذي يحصره في إطار "حرفة" دونية لا يمكن للأموال التي يجنيها أن تعوضه من نظرات الآخرين ومن إحساسه بفقدان "عزة النفس وعفة النفس" كما يسميه باني اقتصاد التسول بمصر المعاصرة من استجداء أقراط الحاجة زينب إلى الطمع في فكة المصريين بعد استيلائه على جزء من مدخراته على وعد استثمارها في مشروع "الترعة" العظيم.

كانت بدايات المتسول واعدة حيث قدمته الدعاية الرسمية منقذا وفاتحا لأبواب المستقبل، وقبل هذا وذاك "حريف".

فيلم (الحريف – 1984) للمخرج محمد خان وبطولة عادل إمام.

على ظهر مركب تنقلهما من الاسماعيلية حيث شاركا في مقابلة كرة قدم تم استئجار "الحريف "فارس" للمشاركة فيها وتقوية حظوظ أحد الفريقين بمقابل مادي.

رزق الاسكندراني: طب قوللي حتبيع الماتش.. متعودناش ع الخيانة.

فارس بكر: متكبرهاش يا اسكندراني.. ده حاجة هايفة.

رزق الاسكندراني: هايفة؟ تبيع الماتش من ورايا وتقوللي حاجة هايفة. ايه؟ خلاص.. مبقيتش مالي عينك؟ على كل حال، المرة ده عدت لكن خللي بالك أن رجلي ده ضاعت بحركة شقاوة زي ده.
فارس بكر: علشان مبتعرفش تجري كويس.

رزق الاسكندراني: أنا كنت أحسن واحد يجري في اسكندرية لولا الطرماي ابن الحرام خادني على غفلة.

وكذلك كان حيث كسرت ساق "الحريف الخائن" بعدها بقليل.

من الطبيعي أن "المرتزق" الذي تشترى خدماته ويطلب دعمه مقابل المال مستعد للانقلاب على حلفاء الأمس في أي وقت وحين. كل ما يحتاجه لتغيير البوصلة والولاء دعما أكبر و"رشوة" أعلى سواء أكانت رزا أو بترولا أو دعما سياسيا لشرعية يفتقدها وهي عنده عز الطلب. ف"الحريف" صار ممتهن تسول على أعلى مستوى مدعوما ببذلته "الميري" ونظارته السوداء وبيادته اللامعة. صار التسول على أعلى مستوى والأموال بالعملات الأجنبية تحصل أو بشحنات النفط تستبدل وفق المواقف واحتياجات الفرقاء.

المتسول...

ينزل شخص من سيارة أجرة ويمر من أمام حسنين البرطوشي..

حسنين البرطوشي: ربنا يكرمكم.. ربنا ما يحرمكم من نظركم..

يضع الرجل ورقة مالية في يده.

حسنين البرطوشي: يا أستاذ، يا أستاذ ايه ده؟ ايه الورقة ايلي انت مديها لي ده؟
الرجل: ده دولار يا حبيبي.

حسنين البرطوشي: ايه؟

الرجل: دولار.

حسنين البرطوشي: لأ.. شوف لما اقولك. خد الورقة ده واديني بالمصري. أنا بأدعي لك بالمصري وحتخش الجنة بالمصري يعني تديني بالمصري.

الرجل: غريبة.. انت بتشوف؟ انت مش أعمى؟

حسنين البرطوشي: أنا أعمى في كل حاجة إلا الفلوس.. خد الورقة ده واديني بالمصري. أنا قابل منك أي حاجة.. ان شالله شلن حتى..

لم يكن حسنين البرطوشي يعلم أن الجنية سيتم تعويمه وفق شروط صندوق النقد الدولي مقابلا لتلقي "الحسنة الأكبر" ورهن مستقبل البلاد لأجيال. ولم يكن حسنين يعرف أن الجنية سيصاب بهزال يقزمه أمام الورقة الخضراء في السوق الرسمية قبل السوق السوداء. كما لم يكن يعلم أن الدولة بأجهزتها كلها ستقف ذات يوم على ناصية بنك دولي تستجديه بعد أن أضاعت من مساعدات "الرز الخليجي" أطنانا ومن احتياطات العملة الصعبة في البنك المركزي مليارات دون أدنى عائد على حياة المواطنين بعد أن كان مخبروها يطاردونه في الشوارع ويعيبون عليه "أكل العيش بالتسول"..

حسنين البرطوشي: الهي ربنا يكرمكم.. ربنا ما يحرمكم من نظركم.

المخبر: فوت قدامي

حسنين البرطوشي: ايه ده؟ ايه يا جدع انت؟ افوت قدامك فين بس؟ سيبني أشوف شغلي.
المخبر: شغل مين يا متسول؟

حسنين البرطوشي: ايه متسول ده؟ انت بتغلط ليه؟ سيبني يا جدع أشوف أكل عيشي.

المخبر: أكل العيش بالتسول؟

حسنين البرطوشي: وانت مالك انت؟ ماتسول زي ما أنا عايز.. ليه الحقد ده؟ عايز تتسول؟ ما تتسول؟

المخبر: كلم الحكومة يا متسول.

حسنين البرطوشي: حكومة؟ حكومة ايه؟ انت مين؟

المخبر: انت مش عارف أنا مين؟ أنا بوليس يا روح والدك.. فوت قدامي  ع العربية لأجرك بالقوة..

حسنين البرطوشي: الله، وحتاخدني ليه؟ هما مش بيصرفوا لك؟

كان أول درس تلقاه حسنين في "أكاديمية التسول" أن العاهات باكالوريا في المجال.

حسنين البرطوشي: باكالوريا باكالوريا ايه؟

خليل الغبي: باكالوريا التسول يا روح قلبي.. الناس كلها بتاكل من عرق جبينها وهنا بياكلو من عرق عاهاتهم.

ليست العاهة دوما جسدية بل هي أسوأ ما تكون حين تصيب الإدراك عند "القائد" وعند عامة الناس الذين يفقدون معها أية قدرة أو حتى رغبة في تغيير الأوضاع فيستحلون العيش في القاع، كما تحمله ميكروفونات المخبرين الذين يجولون الشوارع لتأبيط العزائم خشية الخروج في ركاب الثورة على الاستبداد والقهر والجوع. لقد تمكنوا من تغذية الخوف في النفوس والعقول وتأجيج مظاهر الكفر بالثورة على الظلم وتغذية التوجس من جبروت "الزعيم" الذي يهدد بنشر جيشه في ست ساعات ضد أي تحرك شعبي.

فيلم (الهلفوت – 1984) للمخرج سمير سيف وبطولة عادل إمام.

يستيقظ المعلم عسران على دقات على باب بيته فيفتحه. يدخل عرفة  حاملا صينية عليها طاجين وخبز.

المعلم عسران: خش ورد الباب وراك..

يدفع عرفة الباب فيفاجأ بعدد الأقفال عليه ثم يدخل..

الحمال عرفة: بالهنا والشفا يا سيد الناس. أي خدمة ثانية؟

المعلم عسران: آه.. تعالى ساعدني.. 

الحمال عرفة: أساعدك في ايه لا مؤاخذة؟

المعلم عسران: قلعني..

الحمال عرفة: أقلعك؟؟ هو القلع محتاج مساعدة الأيام ده؟

المعلم عسران: اه.. معايا انا محتاج مساعدة.

يبدأ في مساعدته والمعلم عسران لا يتوقف عن السعال.

الحمال عرفة: واجب برضه يا سي عسران تخلي بالك من صحتك..

المعلم عسران: قطيعة تقطع المكيف..

الحمال عرفة: ما بلاش منها المكيفات ده.. عدم المؤاخذة يعني مأثرة فيك جامد.. بصريع العبارة لا مؤاخذة ده مخليات انت كده زي شوية كراكيب خرده .. ههههههه

يبادره المعلم عسران بكف على وجهه..

المعلم عسران: روح يا واد انجر وخليك ع الباب واقف ايلي رايح وايلي جاي على ما اكل لي لقمة.

الحمال عرفة: ماشي يا سيد الناس.. ماشي.

يجري عرفة خارجا ويغلق الباب ثم يجلس على الدرج الصغير.

الحمال عرفة: ههههه.. عالم عايشة بالأونطة.. الراجل مخموخ من جوه وراعب بلد بحالها..

صدق الهلفوت الذي كان أيضا حريفا ومتسولا!