يعتقد الجنرال أنه استطاع أن يضحك على الشعب المصري وأن يخدعه بتمريره مجموعة قراراته الكارثية منتصف ليل الخميس 4 نوفمبر (ليلة إعدام المواطن). وعلى طريقة الخداع الاستراتيجي، مارس الجنرال لعبة الإلهاء الإعلامي والخداع مع شعبه حول حقيقة سعر الجنيه المصري في مواجهة الدولار؛ فقبل أيام من تنفيذه خطته الجهنمية لما يسميه الخبراء (دولرة الاقتصاد المصري ) أو ما يعرف بتعويم الجنيه، سلط الجنرال سفهاء إعلامه للعب بمشاعر المواطنين عبر بث رسالة طمأنة مفادها (لن نعوم الجنيه)، ثم إذا ما اطمئن الناس للجنرال باغتهم -وكأنهم العدو- بقراراته في منتصف الليل.
ضرب الجنرال ضربته، فضرب الشعب أخماس في أسداس، فماذا عساهم يفعلون؟ ليست هنا القضية، القضية هي أن السيسي يعتقد أنه نال من الشعب بالضربة القاضية، وأن صمت الشارع يعني الرضا عن أفعال الجنرال، وهو ما ليس بصحيح، لماذا؟
1- لم يصدق الجنرال في وعد قطعه على نفسه قط، فكل وعوده كاذبة، بدءا من عدم رفع الأسعار قبل ضمان حياة كريمة للفقراء، وانتهاء بمشاريع الفنكوش التي كان من المفترض أن يهبط معها علينا المن والسلوى، فإذا بها تجول بيننا وبين السكر والأرز وبعض نباتات الأرض.
2- كل التجارب المماثلة والتي طبقت فيها إجراءات اقتصادية قاسية في بعض بلدان العالم ووجهت بثورات وانتفاضات وربما حالات فوضى، ولم تكن مصر في منأى عن ذلك وليست انتفاضة عام 1977 عنا ببعيد ما اضطر السادات إلى التراجع فورا عن قراراته.
3- تجربة شعب مصر مع حكامه من العسكر تنبئ بمصير أشد سوادا من ليل الشتاء، فلم تترك تجربة العسكر أي آثار حقيقية للتنمية والنهضة بل تركت مصر ممزقة بين باشاوات العسكر، وباشاوات الانفتاح واقتصاد الاستيراد.
4- حتى لحظة كتابة هذا المقال لم يفصح الجنرال لشعبه - ولن يفصح والله أعلم - عن الخطوة التالية بعد الخطوة المفاجئة التي قصمت ظهر الفقراء وأنهكت الطبقة الوسطى؟ لم يقل الجنرال لشعبه؟ ما هي نتائج الإجراءات التي تمت؟ وإلى متى يطول صبرهم؟ وهل من ضوء في نهاية النفق؟ أم أن النفق له بداية وليست له نهاية؟
في حواراته التلفزيونية التي تحدث فيها محمد حسنين هيكل عن الجنرال السيسي ذكر هيكل جملة في غاية الأهمية وهي يصف طريقة تفكير السيسي بعد أن وصفه بأنه فاهم الواقع كويس ومدرك لحجم المشكلات التي تواجه مصر، استدرك في عبارة اعتراضية قائلة المشكلة " أن هناك غياب للرؤية".
هذه هي الجملة الوصفية التي ينبغي لأي محلل أو كاتب أن يدركها، وإن اختلف مع توجهات هيكل السياسية، فالسيسي جنرال بلا رؤية، وأي قيادة تفتقد الرؤية تفتقد شروط البقاء، لأن شرط البقاء ليس فقط ادراك الواقع بل استشراف المستقبل والقدرة على بناء قدرات بنائه، وليس التنظير له عن بعد.
ما فعله السيسي أنه قام بهدم رؤية عظيمة خرجت من رحم ثورة يناير 2011 ليبني وهما وسرابا جديدا اسمه 30 يونيو، ثم فاجأ الشعب بتصريحه بأن مصر ليست دولة قائدة ولا تطمح لذلك، ثم تواضعت أحلامه فوصف مصر بأنها ليست دولة بل شبه دولة، ثم عاب على الشعب بحثه عن السكر والزيت والأرز، وذكرهم بأنه لم يسع للحكم بل جاء الحكم إليه، وأنه زاهد فيه، بل وصل به الأمر إلى ادعاء أنه ليس رئيسا، كل ذلك يعطيك فكرة عن حجم عقل الرجل، وعن بلادة تفكيره وأن حكم مصر أكبر بكثير من طموحاته التي تمثلت في الفوز بقلب حبيبته التي كان شرطها في القبول به زوجا أن يحصل على الثانوية العامة.
رجل لم تؤهله إمكاناته للحصول على الثانوية العام يحكم مصر ويدير ثرواتها ومقدراتها بهذه الطريقة، لا يمكن بحال أن يخدع شعبا واعيا وعظيما صبر على آل مبارك ثم انفجر في وجهه وأخرجه من السلطة ذليلا مكسورا، وإن حاول الجنرال إعادة الاعتبار لأكبر لص عرفته السلطة في تاريخها.
حالة الغموض حول مستقبل مصر هي التي دفعت الناس -وقد تدفعهم لبعض الوقت- إلى التريث قبل أن يعبروا عن غضب كامن ومتصاعد، وإن بدا في الأفق صمت القبور، هذه الحالة استمرت لفترة في السنوات الأخيرة لحكم المخلوع، ولكن حين وقع الانفجار الذي لم يتوقعه أحد، لم يكن في المقدور أن يمنعه أحد.