لا أعرف بالضبط ما هو الهدف "العملي" من المؤتمر الشبابي الذي يحضره الرئيس عبد الفتاح السيسي في شرم الشيخ، كما لا أعرف الحكمة في توقيته، ومن تحصيل الحاصل أننا لا نعرف أي معيار تم على أساسه اختيار هؤلاء الشباب المحظوظين بالسفر المجاني والإقامة والترفيه والحنان الأبوي من كافة أجهزة الدولة الأمنية والإدارية على مدار عدة أيام؛ لأن هذه المعلومات والترتيبات حصريا من اختصاص الأجهزة الأمنية، وبديهي أن يكون من حضروا المؤتمر من الشباب هم "على الفرازة"، كما يقال في لغتنا الدارجة.
لكن الأهم فعلا هو السؤال الأول: ما هو مغزى هذا المؤتمر؟ وما الهدف من ورائه والمردود العملي منه؟ سواء أكان هدفا سياسيا أو اقتصاديا أو علميا أو ثقافيا أو حتى رياضيا، عن نفسي حاولت أن أفهم هدفا أو أحدد مغزى للمؤتمر أو المهرجان، فلم أجد سوى أن يكون "مهرجانا" احتفاليا لجرد التباهي واصطناع التعالي الزائف على الواقع البائس للبلد.
في مدى أقل من ثلاث سنوات -هي فترة حكمه- دعا السيسي أو شارك في الكثير من المؤتمرات الاحتفالية الصاخبة والجماعية، وسط ضجيج إعلامي مفتعل، وحديث مفخم عن قيمة وأهمية المؤتمر من قبل الأصوات الموالية، سياسيا وإعلاميا، وغالبا ما يتم الأمر في شرم الشيخ تحديدا، حيث يمكن السيطرة الأمنية بصورة أفضل، وشهدت الإسماعيلية احتفاليتين جماعيتين أيضا، كانتا خاصتين بقناة السويس الجديدة، ثم الاحتفال بالاحتفال السابق بقناة السويس الجديدة.
ومثل هذه المؤتمرات الجماهيرية الصاخبة والمتكلفة لا تجدها عادة في أي دولة جادة، أو حكومة تعمل، أو نظام سياسي يبني مستقبلا حقيقيا، ويمكنك أن تشرق أو تغرب أو تذهب شمالا أو جنوبا، في بلاد العالم، خاصة البلاد التي تصنف على أنها في العالم الأول، من اليابان إلى كوريا إلى ألمانيا إلى بريطانيا وغيرهم، لا تجد مثل هذه المؤتمرات إلا نادرا وفي مناسبات انتخابية فقط، أما بقية العام فالحزب الحاكم ورئيس الوزراء ورئيس البلاد والدولة وأجهزتها، ومؤسساتها كافة، مشغولة بالعمل والإنجاز وتحسين مستويات المعيشة وتطوير البنية الأساسية من صحة وتعليم وخدمات مختلفة، لا وقت للتهريج ولا وقت للضجيج الفارغ، ولا وقت لاحتفالات سياسية صاخبة ومفتعلة.
المشكلة الأساسية عند القيادة المصرية منذ 3 يوليو هو الميول الاحتفالية المتوالية والمشحونة بالبهرجة والتي لا تتفق أبدا من سوء الأحوال المعيشية للمواطن وبؤس البنية الأساسية ولا تتفق حتى مع الخطاب السياسي الرسمي المنمق الداعي إلى العمل والإنجاز، تبدو مثل تلك الاحتفالات المصطنعة كل فترة وكأنها قنابل دخان للتغطية على الأزمات وستر العجز وإخفاء الفشل، فلا يوجد عاقل، داخل مصر ولا خارجها، يستوعب أن هذا البلد يملك فائضا من الوقت والمال والطاقة والإمكانيات لكي يقيم كل هذه الاحتفالات التي لا تراها حتى في ألمانيا المتفوقة أو اليابان المبهرة.
كما أن جميع هذه الاحتفاليات الصاخبة لا يوجد لها برنامج عملي واضح ومحدد، والاحتفالية الوحيدة التي أجري لها برنامج محدد، وهو مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، كشفت الوقائع أن كل ما قيل فيه كان محض خرافات، والأرقام التي أطلقت فيه وبشرت الناس بمئات المليارات التي تتدفق على البلد لم تكن أكثر من دجل إعلامي لتضليل الناس وتخديرهم، وأن المؤتمر كان فاشلا، لأنه لم يؤسس بشكل علمي صحيح، ولم يأت في نهاية مشوار عملي وعلمي جاد لوضع خريطة حقيقية للاستثمار في البلد يمكن أن تتعامل معها الشركات العالمية، كان واضحا أن المؤتمر كان المقصود منه بروباجاندا وصخبا إعلاميا، ورسالة "معنوية" بأن كبار المستثمرين يأتون إلى مصر ويثقون في قيادتها وينعمون بالأمن والأمان في ربوعها، مجرد دعاية فجة ورخيصة تنتهي على أن يأخذ الضيف حظه الكامل من "الفخفخة" شبه المجانية، ثم يعود إلى بلاده لا يلوي على شيء ولا يقتنع بأن هذا البلد يمكن أن تحمل الأمور فيه على محمل الجد.
يواجه السيسي تحديات مصيرية هذه الأيام، ورصيده الشعبي يتآكل تماما، وهو يعرف ذلك، وحتى الكتلة الشعبية غير المسيسة التي كانت تؤيده أملا في تحسن مستواها المعيشي انقلبت ضده الآن بعد أن ساءت أحوالها كثيرا منذ مجيئه وأصبحت أسوأ من كل من سبقوه، وحتى الشباب يعرف السيسي أن الكتلة الأكثر حيوية وفعالية في البلد من الشباب ساخطة عليه وضده، وكثير من رموزهم في السجون الآن أو في المنافي هاربين من البطش والخوف الذي يظلل البلاد، هو يعرف ذلك، ولا ينتظر أن يحدثه أسامه الغزالي حرب أو يقدم له رفعت السعيد كشفا بأسمائهم.
هو يعرف كل شيء بالتفصيل في هذه النقطة تحديدا، ويعرف أنها الأكثر خطورة عليه، ومع ذلك لا يفكر في حل حقيقي للاحتقان والصدام والخوف المتبادل، رغم الوعود المتكررة في أكثر من مناسبة، فقط يفكر في التغطية على ذلك باحتفالية شبابية مصطنعة ودعائية أشبه بالموالد الشعبية، وهو يعرف أنها لن تفضي إلى شيء، لكن "الهيصة" هي المطلوبة وقنابل الدخان للتغطية على أساس أزمته مع الشباب.
النظام الذي يواجه تحديات مصيرية في الاقتصاد، واهتراء البنية الأساسية، وتوقف المصانع عن العمل، وهروب رأس المال للخارج، وشلل السياحة، وانهيار العملة، وشح المواد الأساسية للحياة، بما فيها الغذاء والدواء، وارتفاع معدلات البطالة بصورة مخيفة وغير مسبوقة، وتحديات أمنية رهيبة أصبحت تطال الجيش نفسه، وضغوط إقليمية تنعكس على أوضاع البلد ومصالح الناس في الداخل، واتساع نطاق الفساد في البلد، باعترافه أن "كل شبر" في البلد أصبح غارقا في الفساد، النظام الذي يواجه كل هذه التلال من التحديات الخطيرة، ثم يكون مشغولا باحتفالية لطيفة مع شباب أليف ولطيف وشيك في شواطئ شرم الشيخ، هو نظام يعترف –ضمنيا- بإفلاسه وعجزه وفشله، وأنه لم يعد يملك ما يعطيه فعليا لإنقاذ البلد.
المصريون المصرية