كتاب عربي 21

الانتفاضة يمكن أن توحّد الشعب الفلسطيني

1300x600
أن يختلف الفلسطينيون أمر طبيعي، وهو شيء مشترك بين الشعوب. وأن يختلفوا اختلافا عميقا أمر طبيعي أيضا، وهو سمة مشتركة بين الشعوب كذلك. ولكن أن ينقسموا انقساما عموديا بين إقليمين، وهما تحت الاحتلال، فأمرٌ يُحدث انقساماً أيضاً بين من يسوّغونه ويَعتبرونه ضرورياً وحتمياً من جهة وبين من لا يستطيعون قبوله، أو هضمه، أو تسويغه، من جهة أخرى.

هذا الاختلاف بين الرأيين حول الانقسام الفلسطيني بين سلطتين ووضعين واستراتيجيتين وحركتين كبيرتين، وليس كما يُبسِّطه البعض بأنه بين سلطتين. والأسوأ إذا اعتُبِرَ صراعاً على سلطة.

الشعب الفلسطيني لا تجمعه أرض موحدّة، ولا يظلّه سقف واحد، ولا يسوده وضع واحد. فمنذ نكبة فلسطين أي منذ قيام دولة الكيان الصهيوني وطرد ثلثي الشعب الفلسطيني خارج خطوط الهدنة 1948/1949 تمزق الشعب الفلسطيني أو انقسم بين جزء بقي تحت الكيان الصهيوني، أو ما سمّي بـ"دولة إسرائيل". وقسم عُرِفَ بالضفة الغربية والقدس، وقسم في قطاع غزة وثم في مخيمات الشتات خارج فلسطين، وحتى داخل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، فضلاً عن الشتات الدولي إن صحّ التعبير. وقد قام بين كل جزء أو قسم حدود فاصلة ونشأت أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة. وجاء اتفاق أوسلو ليقيم حكماً ذاتياً تحت الاحتلال في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. ويفصل بين الضفة الغربية والقدس أيضاً.

إلى هنا لم يحدث الانقسام الذي حدث بين الضفة الغربية وقطاع غزة إلا في عام 2007. هذا الانقسام الذي أخذ شكل انقسام بين جبهتين ووضعين واستراتيجيتين وعلى رأسه كل من حركة فتح وحركة حماس.

قبل ذلك عرفت الساحة الفلسطينية في المرحلة التي تشكلت بعد 1968 أي في ظل الميثاق الوطني الفلسطيني ألواناً من الاختلافات والصراعات الحادّة وحتى الجبهات الداخلية، ووصلت أحياناً إلى تجميد العضوية في م.ت.ف وتشكيل "جبهة الرفض" مقابل جبهة برنامج النقاط العشر. ولا تسأل عن عمق الانقسام داخل فتح كما بين الفصائل عام 1983. وقد اتخذ شكل انقسام بين فصائل دمشق وفصائل تونس.

هذا على مستوى ما يُمكن أن يُطلَق عليه مرحلة م.ت.ف ما بين 1968- 1993 وكانت هناك إرهاصات لاختلافات وصراعات حادّة جديدة في أثناء الانتفاضة الأولى 1987-1993، مثلها دخول حماس وحركة الجهاد الإسلامي باستراتيجية مخالِفة لنهج برنامج النقاط العشر فإعلان الدولة المستقلة 1988 فالمشاركة في مؤتمر مدريد فاتفاق أوسلو وما بعده. وهو الذي أصبح الطرف المقابل لطرف م.ت.ف (فتح أساساً) في الانقسام الذي يؤرَّخ له منذ 2007 أي منذ أمسكت حماس بالسلطة في قطاع غزة ثم سرعان ما تحوّل الوضع في قطاع غزة إلى قاعدة مقاومة عسكرية جبارة على يد كتائب عز الدين القسّام الجناح العسكري لحماس، وسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي ومعهما عدد من الفصائل المقاتلة الأخرى.

كانت حركة حماس عام 2006 قد كسبت على فتح في الانتخابات التشريعية فيما حافظت فتح على موقعها في انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية. وهذه المرّة برئاسة محمود عباس الذي خلف الرئيس ياسر عرفات الذي قُتِل مسموماً، من الحكومة الصهيونية بعد أن تمّ التخلي عن حمايته عربياً (مصرياً-سعودياً) ودولياً وفي ظل انقسام داخل قيادة فتح تزعمّه محمود عباس.

هنا نشأت شرعيتان انتخابيتان تتعارضان في الأهداف والاستراتيجية والسياسة وهذا ما ظهر منذ اليوم الأول الذي أعلنت فيه نتائج انتخابات المجلس التشريعي وتسلّم إسماعيل هنية رئاسة الوزراء. وقد أعلن المسؤول الأمني الفتحاوي محمد دحلان رفضه لهذه النتائج وتصميمه على إسقاط حكومة إسماعيل هنية ونتائج انتخابات المجلس التشريعي.

شاءت الظروف أن تكون نقطة الصدام الرئيسة مركزها قطاع غزة وليس الضفة. وقد حُسِمَ بالسيطرة العسكرية لحماس على الأجهزة الأمنية التي كان يقودها محمد دحلان، فيما بقيت الأجهزة الأمنية في رام الله تحت سلطة محمود عباس. ولم ينتقل الصدام العسكري إلى الضفة الغربية امتداداً لصدام قطاع غزة. فما كان من محمود عباس إلاّ أن يُعلن ما جرى في قطاع غزة تمرّداً، وشكّلّ حكومة برئاسة سلام فياض ضارباً عرض الحائط بالمجلس التشريعي، وبشرعية الحكومة التي يترأسّها إسماعيل هنية.

وبالمناسبة لو لم يكن قطاع غزة بيد حماس لكان الانقسام اليوم بين غزة محمد دحلان ورام الله محمود عباس. وهذا ما هو حادثٌ الآن بسمات أخرى داخل فتح في الوقت نفسه.

وَعَوْدٌ إلى ما حدث من انقسام بين فتح وحماس فقد كان انقساماً بين سلطتين وشرعيتين انتخابيتين وفي منطقتين مفصولتين جغرافياً. والأهم بين استراتيجيتين وسياستين وهدفين.

ولكن الانقسام لم يقتصر على ما تقدّم، وإنما أوجد وضعين ماديين وسياسيين وعسكريين لا يلتقيان إلاّ بإلغاء أحدهما الآخر، أو يتعايشان في ظل استمرار انقسامهما، أو طرح مشروع استراتيجي ثالث كما تفعل انتفاضة القدس إذا ما اتفقا على الانخراط فيها وتحويلها إلى انتفاضة شعبية شاملة تعلن العصيان المدني السلمي لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية، بلا قيد أو شرط، مع إطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة.

هذا المشروع الاستراتيجي الثالث يستطيع أن يتعايش مع الانقسام ويجعله، عملياً، منتهي الصلاحية, بل إذا ما نجحت الانتفاضة الشعبية الشاملة، وهو أمرٌ ترجّحه بقوّة موازين القوى الجديدة الراهنة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً، في تحرير القدس والضفة الغربية من الاحتلال والاستيطان، وبلا قيد أو شرط، سوف ينشأ وضع فلسطيني جديد يحمل في طيّاته ما يمكن أن ينشأ في ظله من انقسامات أو توافقات عند الدخول في بحث مع العمل في ظروفه وشروطه وموازين قواه الجديدة. ولكن تحت أسوأ الانقسامات تكون القدس والضفة الغربية محرّرتين، ويكون الأسرى قد أطلقوا وقطاع غزة قد فكّ الحصار عنه.

أما اشتراط إنهاء الانقسام قبل التوافق والتعاون والتنسيق لتصعيد الانتفاضة لتصبح انتفاضة شعبية شاملة، فهو عبث أو خضّ للماء لإخراج زبده منه، أو هو تجريب للمجرّب الذي تكرّر الفشل فيه منذ 2007 حتى اليوم.

فالانقسام لم يكن ممكن التجاوز، أو التحوّل إلى المصالحة، ولاسيما بعد أن خاض قطاع غزة حرب 2008/2009 وانتصر فيها، وتثبّت واقع موضوعي جديد مختلف نوعياً عن واقع الضفة الغربية فقد أصبح عندنا في قطاع غزة قاعدة مقاومة عسكرية محرّرة وممتنعة على عودة احتلال العدّو لها. فهي خارج الاحتلال ولو تحت الحصار، فيما أصبح عندنا في الضفة الغربية أجهزة أمنية بناها الجنرال الأمريكي كيث دايتون بإشراف صهيوني. وراحت تعمل بموجب اتفاق أمني تعهّد بتصفية خلايا المقاومة والحيلولة دون تكرار الانتفاضة، مع تبني استراتيجية المفاوضات. وما زال محمود عباس مصرّاً على ذلك، بالرغم من فشله الذريع، وبالرغم من تفاقم تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية وتوسّعه يوماً بعد يوم. وقد أصبح دعاة الدولة الفلسطينية في ظل حلّ الدولتين التصفوي يائسين كل اليأس أن يبقى لهم شيء بعد أن استشرى الاستيطان في الضفة الغربية وتمادى التهويد للقدس.

ومن هنا أصبحت المصالحة مستحيلة إلاّ بإلغاء أحد الوضعين. فمن جهة لم يكن مطروحاً أن يتخلى محمود عباس وفتح عن الوضع القائم في الضفة الغربية ولاسيما من ناحية استراتيجية التسوية والمفاوضات، أو من ناحية شروط محمود عباس للمصالحة: أي "سلاح واحد وقرار واحد للسلم والحرب، وسلطة أمنية وسياسية واحدة"، فيما من الجهة الأخرى، لا يمكن تسليم سلاح المقاومة وأنفاقها لسلطة رام الله وأجهزتها الأمنية لأن ذلك بمثابة الجريمة والخيانة.

ولهذا، فإن كل من يضع المصالحة شرطاً له الأولوية على كل ما عداه، أو يعتبر الانقسام الحالي شراً مطلقاً ولا يعطي الأهمية الاستثنائية لما وصله قطاع غزة من قوّة مقاومة عسكرية ذات بُعْد استراتيجي على الأرض الفلسطينية، عليه أن يقول لنا كيف سيحلّ ما قام من انقسام موضوعي في ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة؟ بكلمة، ليس أمامه غير الخيار الثالث: الانخراط في الانتفاضة واستراتيجيتها.