وردت الإشارة الأولى لمصطلح «أهل السنة والجماعة» في بدايات القرن الثالث الهجري. طبقا لشيخ مؤرخي الإسلام، ابن جرير الطبري، أرسل الخليفة المأمون، العباسي، من محل إقامته، آنذاك، في الرقة، قبل قليل من وفاته في 218 للهجرة، كتابا إلى عامله في بغداد، إسحاق بن إبراهيم، ينتقد فيه من نسبوا أنفسهم إلى السنة وقالوا أنهم «أهل الدين والحق والجماعة». أمر المأمون في كتابه ابن إبراهيم باستدعاء العلماء والفقهاء والمحدثين والقضاة، الذين يدعون بأنهم «أهل السنة والحديث»، لامتحانهم في معتقد خلق القرآن، الذي أراد أن يجعله مذهب الدولة الرسمي وأن يجبر الناس عليه.
هذا أول ما سيعرف في حوليات الإسلام بالمحنة، وأول الصراع، الذي سيطول بعد ذلك، بين المعتزلة المبكرين وأهل السنة الأوائل. بدأت إجراءات المحنة بالقبض على عدد من العلماء والفقهاء، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل، الذين امتنعوا عن القول بخلق القرآن، وأرسلوا إلى الخليفة في محل إقامته. ولكن، وبعد قليل من مغادرة قافلة المعتقلين، جاء الخبر بوفاة المأمون، فأعيدوا إلى بغداد. استمرت المحنة طوال العقدين التاليين، وربما وصلت أشد لحظاتها أثناء خلافة المعتصم؛ ولم تنته إلا بتولي المتوكل. خلال القرنين التاليين، الرابع والخامس الهجريين، لم يحسم الصراع بين أهل السنة والمعتزلة لصالح الأولين وحسب، بل وأصبح أهل السنة الإطار الأوسع للإسلام، تيار الإسلام الفسيح، والحاضن الرئيسي لجماعته.
مجموعة العلماء والفقهاء والمحدثين، الذين لم يتردد الخليفة، الذي كان على درجة عالية من العلم، من أن يطلق عليهم اسم أهل السنة والجماعة (وإن أنكر عليهم هذا الوصف)، هم من عرفوا آنذاك بأهل الحديث، مثل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين ويحيى المديني، وغيرهم.
وهم من عارضوا مقولة المعتزلة المبكرين بخلق القرآن، ووقف عدد منهم، وعلى رأسهم ابن حنبل، في مواجهة الخلفاء العباسيين الذين أرادوا فرض المعتقد الجديد على جماعة المسلمين، وانتصروا في النهاية. وكان الصديق، د. رضوان السيد، قد أخبرني قبل زمن أنه عثر على مخطوطة معتزلية تعود إلى نهايات القرن الثاني الهجري، أي قبل عقود من انطلاق محنة خلق القرآن، تحمل إشارة إلى أهل السنة والجماعة. مهما كان الأمر، فإن وصف المأمون، في 218 للهجرة، مجموعة العلماء من أهل الحديث بأهل السنة والجماعة، يعني أن المصطلح كان قد استقر نسبيا في الفضاء الإسلامي وأصبح يحمل مدلولات محددة، أبرزها، في تلك اللحظة التاريخية، الإصرار على أن القول بخلق القرآن هو بدعة لا أصل لها في معتقدات المسلمين، والقول، في المقابل، أن القرآن هو كلام الله، وأن هذا هو معتقد سلف المسلمين، أو الأجيال الثلاثة الأولى منهم: الصحابة والتابعون وتابعو التابعين.
أعود إلى هذه الرواية التاريخية، التي لا يعرف دارسو الإسلام المبكر، من مسلمين وغير مسلمين، من رواية تخالفها، بمناسبة انعقاد مؤتمر في مدينة غروزني الشيشانية، في الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر، قصد به، كما يبدو، تعريف أهل السنة والجماعة.
وبالرغم من ردود الفعل التي أثارها المؤتمر، وعلى نطاق واسع، تشير تقارير إلى أن منظمي لقاء غروزني يعتزمون عقد مؤتمر ثان، شبيه، قريبا، في جنوب إفريقيا. عقد مؤتمر غروزني برعاية من رئيس جمهورية الشيشان، التي هي إقليم من أقاليم الاتحاد الروسي، والمعروف بميوله المافيوزية، وليس بعلمه في معتقدات أهل السنة والجماعة. وذكر أن تمويل المؤتمر جاء من دولة عربية خليجية، اشتهرت في السنوات الأخيرة بسعيها إلى حشد علماء وأساتذة جامعيين وكتاب وصحافيين، من أجل خوض معركتها ضد التيار الإسلامي السياسي والجماعات الإسلامية ذات التوجه السلفي، وضد الثورات العربية الديمقراطية. ولم يكن غريبا، بالتالي، أن يصدر عن المجتمعين في غروزني، من متصوفة، ومعممين معروفين بولائهم لأنظمة قمعية وانقلابية عربية، بيان يحدد أهل السنة والجماعة بالأشاعرة والماتريدية والمتصوفة، ويقول بأن السلفيين والتيار الإسلامي السياسي، سيما جماعة الإخوان المسلمين، ليسوا من أهل السنة والجماعة.
لا يختلف خطاب مؤتمر غروزني، من قريب أو بعيد، عن الخطاب الداعشي، أو خطاب جماعات التكفير والهجرة، الصغيرة والهامشية، التي سبق ظهورها، في سبعينات القرن الماضي، ظهور داعش وأخواتها. كلاهما يعتقد أن الطريق إلى الله ضيق وصغير ولا يضم أحدا سواهما، وأن الخلاص الإنساني محصور بحدود مقولات ومعتقدات فئة طرفية من المسلمين، الذين يبدون أقرب إلى المعتوهين والمرضى منهم إلى أهل العلم والتقوى. وكلاهما يحاول أن يجعل من أهل السنة والجماعة، الذين هم عموم جماعة المسلمين، خيمة الإسلام الكبرى وتياره الواسع، مترامي الأطراف، طائفة هامشية. وكلاهما، فوق ذلك، يحاول النبش في تواريخ ومواريث مضت، لم يعد لها من أثر كبير في حياة عموم المسلمين، لتسويغ موقفه، الذي هو في الواقع موقف أقلية ضئيلة، لا تكترث لها الأغلبية العظمى من المسلمين المعاصرين، ولا تثق بها، ولا بدوافعها وعلاقاتها السياسية المثيرة للشكوك. ولكن المسألة لا تقتصر على هذا. فليس من الغريب أن يجد حكام، يمتلكون مقدرات مالية هائلة، معممين، أو أكاديميين، أو كتابا، يحملون رايتهم ويخوضون معاركهم.
هذه سنة عرفتها الأمم من قبل، ولم تزل. ولكن، أن يكون هؤلاء المعممون والأكاديميون والكتاب على هذه الدرجة من الجهل، فهذا ما يدعو إلى الدهشة، فعلا.
أطلق وصف أهل السنة والجماعة، أولا، على أهل الحديث، ولم يكن هناك بعد من أشعرية ولا ما تريدية ولا متصوفة. لم توجد جماعة متصوفة بغداد، نواة التصوف الإسلامي الأولى، التي تطورت من دوائر الزهاد المسلمين، إلا في نهايات القرن الثالث الهجري. ولم تبرز مدرسة أشعرية أو ما تريديه حتى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. وحتى أبو الحسن الأشعري، الذي توفي في العقد الثالث من القرن الرابع، اعتبر نفسه على مذهب أحمد، ومن المدافعين عن مقولات أهل السنة والجماعة كما قال بها أهل الحديث. والمعروف، اليوم، أن من يوصفون بالسلفية، يقولون بأنهم امتداد لأهل الحديث، أول من حمل صفة أهل السنة والجماعة. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، تسمت جماعات سلفية التوجه في الهند ومصر، كما في غيرها، باسم أهل الحديث.
بيد أن الحقيقة أن الآثار الثقافية، كما يقول التاريخانيون، ليست حفريات ولا آثارا حجرية، وأنها دائمة التغيير. وربما ينطبق على الآثار الثقافية قول نيتشة «أن كل شيء له تاريخ، لا يمكن تعريفه». اختلف مصطلح أهل السنة والجماعة في القرن الرابع الهجري، وإن قليلا، عما كان عليه في مطلع القرن الثالث الهجري. وفي منتصف القرن الخامس الهجري، اللحظة التي وصفها هودجسون بانتصار العالمية السنية (وليس الطائفة)، كان أهل السنة قد أصبحوا بالفعل الجسم الرئيسي لجماعة المسلمين، وفي داخلهم، تعددت المعتقدات والمذاهب والآراء السياسية، كما المواقف من مواريث الإسلام السابقة، وأنماط السلوك، والمشارب الروحية.
في أصل هذا التعدد، تقع رؤية أهل السنة والجماعة المتفائلة للدين وإمكانيات الخلاص الإنساني غير المحدودة؛ ويتجلى في هذا التعدد الثقل التاريخي الهائل لأهل السنة والجماعة، قدرتهم التي لا توازيها قدرة على الاستمرار، والتماهي اللصيق بينهم وبين الإسلام ذاته. وهي تقلبات الزمان التي سمحت لشرعي جاهل في ريف سوريا والعراق، أو معمم لا يقل جهلا على رأس مؤسسة رسمية، أو متصوف في حالة غيبوبة، الخروج إلى أمة المسلمين لادعاء تمثيله هو، وهو فقط، لأهل السنة والجماعة.