كتاب عربي 21

موقعة القفص الزجاجي!

1300x600
لا أحد يتعظ من دروس التاريخ على وضوحها، فلا بد من أن يكتوي كل فرد بنار الاستبداد، حتى يعلم أنه نار تطلقها في اتجاه فتصل إلى كل اتجاه، وقد يسعدك أن تحرق خصمك، لكن من المؤكد أنها ستصل إليك!

في الأسبوع الماضي، خسر "خالد علي" المحامي والمرشح الرئاسي السابق، دعوى كان قد رفعها أمام محكمة القضاء الإداري، بالنيابة عن "أحمد دومة"، يؤكد فيها عدم قانونية احتجاز موكله في القفص الزجاجي أثناء محاكمته، لكن المحكمة رفضت الدعوى لعدم الاختصاص!

لم يكن تعرف مصر اختراع القفص الحديدي في محاكمة "دومة" ورفاقه، فالاختراع توصل إليه حكم العسكر، لمحاكمة الرئيس محمد مرسي وإخوانه، في سابقة لم تعرفها المحاكم في طول التاريخ وعرضه، وإذا كانت المحكمة الأمريكية التي نصبت لمحاكمة الرئيس صدام حسين، من شخوص عراقيين، هي واحدة من أسوأ المحاكم التي حاكمت القادة، فإنها تعتبر الأفضل عند المقارنة بأجواء وأداء المحاكم التي نصبت لمحاكمة الرئيس المصري المنتخب!

اختار الأمريكان قاضيا بدا للوهلة الأولى أنه خصم، فتعمد إهانة صدام حسين، وفي إحدى القضايا وعندما وقع الاختيار على قاض مهذب، تمت العودة لهذا القاضي سليط اللسان، لكن صدام ارتفع بصموده أمام هذه المهزلة، والتي شاهدت معظم جلساتها، واستدعى الناس شموخه وهم يرون المخلوع حسني مبارك وهو في الوضع المزري الذي ظهر عليه!

منذ بداية الانقلاب وسلطة الانقلاب في "حيص بيص"، فقد اختطفوا الرئيس مرسي، وجرى تغييبه بدون قرار قضائي، وظهر الارتباك واضحا في إحدى التسريبات وحديث النائب العام، وسكرتير السيسي، ووزير الداخلية، وهم يخططون لوضع لافتة على القاعدة العسكرية التي يعتقل فيها الرئيس لتفيد أنها سجن. ثم كانت الأزمة الثانية عندما وجدوا أنفسهم مضطرين لتقديمه للمحاكمة، وكان واضحا أنهم فشلوا في إرهابه، أو حمله على أن يبدو، كما بدا مبارك، ضعيفا مستسلما، فهداهم تفكيرهم إلى محاكمته في أكاديمية الشرطة، وبوضعه داخل قفص زجاجي عازل للصوت، ثم حيل بينه وبين المعتقلين داخل هذا القفص!

لم يسمح للرئيس بالزيارات القانونية، كما لم يسمح له بأن يلتقي دفاعه، فضلا عن أنه لم يسمح له بحرية الدفاع عن نفسه، إلا مرات نادرة كان القاضي فيها يتحكم في عزل صوته، ولعل المرة الوحيدة التي سمح له بالتقاء محاميه، جرى اختيار واحدا منهم هو الدكتور سليم العوا، ولم يقع اختيارهم مثلا على المحامي اليساري المحترم محمد الدماطي، والأول ارتباطه بالعسكر كان واضحا منذ اختياره عضوا فيما سمي بالمجلس الاستشاري في حكم المجلس العسكري، وهى الفكرة التي كانت لقطع الطريق على مطلب المجلس الرئاسي لإدارة الدولة وإبعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن الحكم، وهو الذي تولى إدارة شؤون البلاد بقرار من المخلوع مبارك!

وبعد إذاعة تسريبات اللقاء تبين أن الهدف منه لم يكن لمنح الحق للرئيس في أن يناقش مع محاميه الاتهامات وكيفية مواجهتها قانونا، ولكن لينقل له "العوا" رسالة تيئيس، بقوله إن "سيادة المشير عبد الفتاح السيسي" سوف يترشح للرئاسة وأن الشعب معه، استكمالا لدور كاثرين آشتون، ففي لقائها مع الرئيس في محبسه قالت له هذا المعنى عن أن الشعب ليس معه، وأن أنصاره قلة. وإذا كان هناك من أحسنوا الظن بالغوا وذهبوا يقومون بتأويل حديثه وهو يتحدث بكل الاحترام عن السيسي فهو "سيادة المشير"، فإن اختفائه بعد هذه اللقاء، كاشف عن الهدف من اللقاء المسجل أمنيا، وظنه أنه كشف أمام الرأي العام.

وبعيدا عن "العوا"، وارتباطاته، وعلاقاته الأمنية، فقد كان التنصت الأمني على اللقاء سواء بعلم محامي الرئيس أو بعدم علمه، إهدارا لحق المتهم في أن يحاكم أمام محكمة مستقلة وعادلة!

ورغم هذه الانتهاكات، فلم يستنكرها أو يستنكفها التيار المدني المنحاز للانقلاب العسكري، و"خالد علي" قبل أن يكون مرشحا منافسا للرئيس محمد مرسي، فهو حقوقي ويترأس منظمة حقوقية، لكن لم نر أحدا من الحقوقيين في مصر على مدى ثلاث سنوات كاملة هي عمر الانقلاب فقد اختفوا في ظروف غامضة، فالحقوقيون تحولوا إلى نشطاء سياسيين، بما أثبت أنهم لم يكونوا حقوقيين من الأصل، وأن قضية حقوق الإنسان، كالديمقراطية، لا يوجد دعاة لها، أو مؤمنين بها، ولهذا فعندما دعوا لتجارة أو للهو عندي العسكر، لم يتحدث أحد منهم عن اختراع القفص الحديدي، وعدم توافر ضمانات المحاكمة النزيهة ولو من حيث الشكل!

واللافت أن محكمة النقض كشفت إهدار قيم العدالة في هذه المحاكمات وفي حدود سلطاتها؛ عندما رفضت الانعقاد في هذا المكان الذي يخضع للسلطة التنفيذية ولوزارة الداخلية، وأبى كبرياؤها القضائي قبول الانعقاد في هذا المكان، وسكت الحقوقيون وأصحاب بوتيكات حقوق الإنسان في مصر، ولم يؤوبوا معها.

ولأن الاستبداد "كأس ودائر"، فلم يسعدوا كثيرا به، فقبل أن يفرغ السيسي من الإسلاميين امتدت يده لتعصف بحلفائه الذين شكلوا غطاء مدنيا للانقلاب العسكري في 3 يوليو!

ولم يستمتع "أحمد دومة" ورفاقه بالعيش في كنف الاستبداد والتمتع بمزاياه، وهو الذي بارك الدم الذي أريق في "رابعة" وأخواتها. فقد تم سجنه، وجرت محاكمته في نفس القفص الزجاجي، وأمام إحدى الدوائر المختارة بعناية لمحاكمة الرئيس مرسي وأنصاره، فذهب "خالد على" بعريضة دعوى للقضاء الإداري طالبا القضاء بإزالة هذا القفص، وكان الحكم بعدم الاختصاص!

محاكمة "دومة" ومن معه أمام في ذات المكان وأمام نفس الدوائر التي تحاكم الرئيس وإخوانه، هي درس بليغ من دروس التاريخ الكثيرة، والتي لا تجد من يتعظ بها، فقد استفاد العسكر أولا وأخيرا من وجود نخبة لا تؤمن بالديمقراطية، حيث أيدت النخبة حركة ضباط الجيش نكاية في حزب الوفد، حزب الجماهير العريضة، وباعتبار أن الاحتكام للشعب سيصب في صالح هذا الحزب، وكان رموز النخبة أعضاء في أحزاب الأقلية التي تحكم بوضع اليد، وهؤلاء كانوا ضد الدعوة بعودة الجيش إلى ثكناته لأن عودته تعني انتخابات تدفع بالوفد لسدة الحكم، ثم اكتووا هم بنار العسكر وقدموا تنازلات كبيرة لإثبات الولاء، لم تشفع لهم عند سلطة متسلطة تكره الثقافة والمثقفين.

الإخوان أنفسهم لم يكونوا بعيدين عن هذا، فقد أيدوا المحاكم الاستثنائية، لأنها نصبت لقتلة حسن البنا، كما أيدوا قرار حل الأحزاب لأنه سيغيب حزب الوفد، ويسمح لهم بالتمدد في الشارع بدون منافس فهم جماعة وليسوا حزبا!

وارتفع صوت "توفيق الشاوي" وآخر في مكتب الإرشاد، يحذران من مغبة قرار التأييد، فقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض، لكن الأغلبية كانت مؤيدة لاستبداد العسكر، ليحدث بعد هذا حل الجماعة، وتقديم قياداتها لذات المحاكم الاستثنائية!

أعلم أن النخبة المصرية لا تؤمن من داخلها بالديمقراطية وبالحريات، ولو كانت تؤمن بها لما أمكن لعسكر أغبياء في الأولى والآخرة أن يلعبوا بالجميع "كرة شراب"، لكن المدهش هو أن هذه النخبة لم تقرأ التاريخ القريب لتستخلص العبر من دروسه!

الآن تذكر "خالد علي" أن "القفص الزجاجي" ليس قانونيا؟!