تشير كثير من الدراسات النفسية والاجتماعية إلى أن الاستبداد والديكتاتورية والانفراد بالأمر والنهى تعرض الإنسان- أي إنسان- لتغير جوهري في طبيعته البشرية العادية.. إذ تحدث السلطة المطلقة فيه حاله من الانهيار العام لمبادئه وشخصيته وسلوكه و خياله وأفكاره ومواقفه وعلاقاته أي باختصار سنكون أمام مخلوق آخر.. لا علاقة له بمخلوق ما قبل السلطة المطلقة.. مخلوق ما بعد السلطة المطلقة يشبه مخلوقات ما قبل التاريخ في شراسته وغلظته وبدائيته وقلقه وخوفه ممن حوله ومن أيامه ولياليه.. وأخيرا يجد هذا المسكين نفسه مدفوعا نحو وحدة مؤلمة وعزلة كاملة إلا ممن يزينون له أوهامه وهو بهذا يكون قد عرف طريقه السريع إلى درب الجحيم الذى لا فكاك منه.. تذكر جيدا أنه لا فكاك منه.
اندريه موروا المفكر الفرنسي الشهير وصديق ديجول المقرب ذكر في كتاب (المذكرات المضادة) أنه ذهب إلى الصين وقابل ماوتسي تونج الزعيم الصيني ووصفه بانه (كان جالسا وسط اكبر رجالات الصين والكل صامت تماما يتسقط كل كلمة تبدر من فمه.. لقد تحول الرجل إلى أسطورة.. ) هكذا قال. سيكون علينا أن نتذكر الفاروق عمر الذى كان شديد القلق من تلك الحالة.. إذ دخل عليه حذيفة ذات يوم فوجده مهموما فسأله فقال أخاف أن أخطئ فلا ينبهني احد تعظيما لي فقال له حذيفة والله لو رأيناك على خطا لصوبناك فابتسم عمر وقال الحمد لله الذى جعل لي أصحابا يقوموني.. ضع في راسك هذا النموذج وتذكر موقف الرئيس الأسبق ج.ح. عبد الناصر من الراحل د/حلمي مراد حين كان وزيرا للتربية والتعليم ورد هدايا إلى مجلس الوزراء كان قد تلقاها في زيارة الكويت والبحرين سنة فعزله عبد الناصر من منصبه وقال لمن حوله هو اللي شريف واحنا اللي لصوص)..
الإسلام يقول لنا إن السلطة ليست فقط طاعة وإكراه.. إنما هي تعبير عن حقيقة اجتماعية وشرعية وتحوطها سياجات تصونها من الانفلات والعربدة.. لكن ما حدث كان غير ذلك.. فإذا نحن بإزاء ثقافة عن الحكم و السلطة تختلف تماما عن مكونات الأفكار الكبرى التي قدمها الإسلام في العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي وصفها الإمام على بأنها أعظم ما افترض الله من الحقوق( فرضها الله لكل على كل )..
الحاصل والشاهد والغائب أيضا في كل ذلك هو أن مسالة تأثير السلطة على الدماغ البشرى هنا ليست إرادية.. بمعنى انه لا يمكن أن يوجد (كائن أدمى)تتجمع في قبضة يديه سلطة مطلقه إلا وتحدث في خلايا مخه كمية من التغيرات النوعية العميقة تنتهى به إلى كيان أدمى أخر تماما.. والحالة هنا تدخل في مراحل(الصيرورة الحتمية).. والمؤكد أيضا أن هذا الحاصل هو استجابة طبيعية لقانون كوني ثابت.. مثل غليان الماء بارتفاع درجة حرارته إلى درجة معينة.. وغشيان الليل على النهار ومثل ذلك من الثوابت الكونية..
دعونا نختصر كل ذلك في القول بأن ممارسة السلطة دون رقابة متعددة وصارمة وحساب عام تجعل صاحب السلطة فريسة سهلة للغاية للتحول وبسهولة إلى ديكتاتور.
ومن هنا يتأكد لنا دوما تلك العلاقة الوثيقة بين السلطة والقانون.. وهى بالفعل علاقة عضوية لا غنى عنها.. وقد عرفت هذه العلاقة في الدول -المستقرة المتقدمة- رسوخا وفاعلية كاملة.. حفظت وصانت لكل الأطراف ما ينبغي أن يحفظ ويصان.. فحفظت للسلطة صناعة القرار وترتيب تدابيره العديدة.. وحفظت للمجتمع أمنه وسيادته.. وحفظت للقانون سموه وهيبته.
ما نراه في بعض الحالات المشينة المهينة.. بهذا الصدد يطلق عليه (قانون السلطة) وليس (سلطة القانون) فالحاكم هو الآمر الناهي فهو الذى يصنع القانون وهو الذى يلغي القانون ومن يعارضه ويخاصمه سيكون مصيره (التنكيل والإيذاء) والدخول في دوائر الإزاحة أو الفضيحة.
القذافي الذي مكث في السلطة 40 عاما كانت له جملة شهيرة حول شيء بغيض كريه اسمه (تداول السلطة) كان يقول (لن نسمح لأحد بسرقة السلطة من الشعب) بشار الأسد قال بعد كل ما حدث ويا هول ما حدث قال العبارة ذاتها وإنه لن يغادر السلطة إلا بإذن الشعب.. حين تسمع أحدهم يحدثك كلاما مبهما ويستخدم فيه كلمة (الشعب)، دون الإشارة إلى أي أبنية سياسية أو مؤسسات يتوزع عليها هذا (الشعب) فاعلم أنه يتحدث عن إرادته الديكتاتورية السامية المتعالية عن السؤال والحساب. إنها الأكاذيب الماكرة.