أخيرا أعلنت الحكومة المصرية وبعثة صندوق النقد الدولي عن التوصل لاتفاق بين الطرفين يتم بموجبه منح مصر قرضا مقداره اثنا عشر مليار دولار، على ثلاث سنوات لدعم عمليات الإصلاح الاقتصادي في مصر، وكانت المفاوضات قد تمددت قرابة عشرة أيام دون أي أفق أو إشارات للتوصل لاتفاق حتى وصل أمس توني بلير، الذي يوصف بأنه المستشار الاقتصادي للسيسي وقضى عدة ساعات في القاهرة غادر بعدها، وأعلنت الحكومة موافقتها على شروط الصندوق وتوقيع الاتفاق، وأنا لا أعرف حتى الآن ما هو سر "بلير" هذا الذي يبدو أنه صاحب قرار وتأثير بالغ العمق في توجيه السياسات العامة في مصر، رغم أنه متهم أمام برلمان بلاده بالتضليل والكذب والتورط في الدم، وهناك احتمال كبير أن يقدم للمحاكمة.
الاتفاق مع صندوق النقد ـ رغم سلبياته وسحقه للفقراء ـ إلا أن له وجها إيجابيا للدولة المصرية، لأنه يعطي شهادة حسن سير وسلوك لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات الثلاث المقبلة على الأقل بناء على ضمانات قدمتها الحكومة وتعهدت باحترامها، وبالتالي يحفز ذلك مؤسسات أخرى على تقديم قروض وكذلك يعطي نوعا من الطمأنينة للمستثمرين، وتتوقع الحكومة أن تصل جملة الأموال المقترضة بناء على ذلك إلى حوالي واحد وعشرين مليار دولار، وهي حزمة ليست بالهينة إذا أحسن استخدامها، ولم يكن مصيرها كمصير المليارات الخليجية التي راحت في الهدر وكأنها "مال حرام"، ولم يظهر منها شيء له أثر على حياة المصريين، باستثناء بعض التطوير في الطرق وتوفير الوقود ودعم المؤسستين العسكرية والأمنية، وفي الغالب ستكون المعونات الجديدة أفضل حالا نظرا لأنها ستكون تحت رقابة صندوق النقد الدولي، ووفق شروط صارمة وضعها ووضع لها سياسات ملزمة لمصر.
صندوق النقد الدولي ليس جمعية خيرية تقدم أموالا ضخمة لوجه الله والوطن أو حبا في الشعوب البائسة، وبالتالي فبديهي أن ثمة شروطا وضعها الصندوق على الحكومة المصرية ويلزم تنفيذها، وفور تصديق المجلس التنفيذي للصندوق على الاتفاقية ستفقد مصر جزءا كبيرا من سيادتها على القرار في تحديد سياساتها المالية والاقتصادية، فسيكون هناك "رعاة" دوليون هم شركاء في القرار، ولهم حق الإشراف على إنفاق الأموال، وتحديد أماكن أو جهات صرفها، وهذا ما يخصم عادة من سيادة الدول على قراراتها، كما يكون له انعكاسات أخرى بنسب مختلفة على القرار السياسي، باعتبار أن الاقتصاد لا يمكن فصله عن السياسة بالكلية، وأن السياسات الاقتصادية مهما كانت قيمتها وأحكامها، لا يمكن أن تعمل بمعزل عن سياسات عامة للدولة تحميها وتدعمها وتجعلها أكثر فاعلية عند التطبيق.
السياسات الاقتصادية سيتم تنفيذها من خلال مواطنين، في مختلف جهات العمل أو الإدارة أو الرقابة أو التخطيط أو القرار، وهذه الدوائر لا يمكنك استخراج أفضل ما فيها بالقبضة الأمنية الصارمة أو الحصار القانوني أو الفهلوة الخطابية، كما أن البسطاء والفقراء وهم أغلبية الشعب الآن، وبينهم عشرات الملايين من الشباب، هم الذين سيتحملون الأعباء شديدة القسوة لفاتورة صندوق النقد، بعد رفع الدعم عن السلع ورفع أسعار الخدمات والكهرباء والوقود، وتقليل قيمة العملة المحلية وما يصاحب ذلك من ارتفاع مهول في أسعار مختلف السلع والمواصلات والسكن وغيره، ولا بد من وجود حزمة سياسات عاقلة وحكيمة لاستيعاب ذلك الضغط الشعبي الكبير والحيلولة دون انفجاره، ومرة أخرى، هذا الغضب الشعبي لا يمكنك السيطرة عليه دائما بالقبضة الأمنية، وإنما بسياسات عادلة وحكيمة، وجبهة سياسية شعبية واسعة داعمة لخطوات الإصلاح، وإلا فإن الانفجار سيكون واقعا لا محالة.
راحت السكرة، وجاءت الفكرة، مرحلة الأغاني والرقص والهجص مرت وانتهت، ودخلنا في الجد، والمصريون سيواجهون أياما شديدة القسوة في الأشهر المقبلة، واتفاق صندوق النقد أداة جيدة للنظام إذا كانت مدخلا لإصلاح شامل، ولكنه سيكون كارثة على البلد كلها إذا تم تنفيذه بوتيرة القمع نفسها، وانسداد شرايين السياسة والعقليات والفهلويات التي تدار بها البلد حاليا.
المصريون المصرية