عندما تمددت رياح الربيع العربي لتصل ـ فيما وصلت إليه ـ إلى المغرب، وامتدت الحشود الهائلة في الشوارع على مدار أسابيع، تعامل الملك محمد السادس بحكمة مشهودة وعقلانية سياسية، استوعبت المتغير الجديد، وفكرت في ما يمكن إنجازه لتحقيق آمال، أو جزء من آمال شعبه في التغيير والإصلاح، وكان القبول بإنجاز دستور جديد فيه مكاسب واسعة للأحزاب والقوى المدنية، من أهمها أن يتم تكليف الحزب الفائز بالانتخابات بتشكيل الحكومة دون تدخل من القصر، غير أن الملك المغربي قرر أن يحتفظ للقصر الملكي بإدارة مؤسستين، اعتبر أنهما تتعلقان بحساسيات كبيرة للأمن القومي للبلاد واستقرارها، كان مفهوما أن تكون المؤسسة الأولى فيهما هي المؤسسة العسكرية، لكن المفاجأة أن المؤسسة الثانية هي المؤسسة الدينية، إدراكا منه بمدى القوة المعنوية والسياسية أيضا التي تملكها تلك المؤسسة في مجتمع متدين، ومدى ما يمثله من خطورة أن تترك لتجاذبات الأحزاب ومعترك السياسة المحلي.
أستحضر تلك اللمحة، وأنا أشاهد الفوضى التي تعصف بالمؤسسة الدينية في مصر، وتعامل الرئيس عبد الفتاح السيسي باستخفاف ملحوظ مع ما يحدث فيها، وخاصة السلوكيات الرعناء التي يتخذها وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، ودخوله في مشاحنات متتالية مع المؤسسة الدينية التاريخية الأهم والأخطر في مصر، الأزهر الشريف، وآخرها تلك "الافتكاسة" التي خرج بها الشيخ جمعة، بقراره تعميم خطبة مكتوبة على أئمة المساجد يقرؤونها يوم الجمعة من أسوان إلى الاسكندرية ومن السلوم إلى رفح، وهو كلام مثل صدمة كبيرة، حتى لمشايخ الأوقاف، وإن استعصى عليهم الاحتجاج، بسبب الأجواء القمعية المخيفة التي يفرضها الوزير داخل وزارته، وقيامه بعزل آلاف الخطباء والأئمة لأسباب مزاجية بحتة لأي شبهة، تشبه التقارير الأمنية المسيسة، غير أن الأمر ليس كذلك مع الأزهر وهيئة كبار علمائه، التي يمثل كل عضو فيها علما من أعلام الفكر والثقافة والعلم في الإسلام، وأستاذا يفخر وزير الأوقاف مختار جمعة لو نسبه أحدهم إلى تلاميذه، فإذا به يتحدى هذه القامات ويتعامل باستخفاف معهم، ويتعمد استفزازهم وإهانة موقعهم ومرجعيتهم، مستندا إلى دعم الأجهزة الأمنية له، وغض السيسي الطرف عما يفعله.
وزير الأوقاف منصب سياسي، وليس دينيا، وإن لبس العمامة، هو جزء من السلطة التنفيذية، وبالتالي لا يملك أن "يفتكس" أفكارا وسلوكيات في شؤون الدعوة والعبادات الشرعية، دون الرجوع إلى "أهل" العلم والدين، والمرجعية الدينية الرسمية التي تعتمدها الدولة، التي قضى لها مجلس الدولة في حكم تاريخي بأنها المسؤولة ـ وحدها ـ عن الشأن الديني في مصر، وكانت الخصومة وقتها مع اللزج فاروق حسني وزير ثقافة مبارك.
وبالتالي، فإن أي قرارات أو إجراءات تتصل بطبيعة الدعوة في المساجد ناهيك عن العبادات، وهي وقفية، مثل صلاة الجمعة، فإن على الحكومة بكاملها، بما فيها وزيرها للأوقاف أن يحترموا مرجعية الأزهر، وأن يعودوا إليه أولا، قبل أي خطورة، يلتمسون "الرأي" الشرعي، وما يقرره الأزهر ـ في الشأن الديني ـ يسري على الحكومة بكاملها، وليس على وزير الأوقاف فيها فقط، هذه بديهيات في عمل المؤسسات، إذا كنا نقول أو نزعم أن مصر دولة مؤسسات، وليست دولة فوضى تمضي الأمور فيها بالذراع.
تلك مسألة خطيرة للغاية، في ظل الأوضاع المرتبكة في البلد الآن، فالأمور كما يقولون "مش ناقصة"، وإذا كان السيسي يجد من وقته واهتمامه أن يجتمع مع البابا وقيادات "المؤسسة الكنسية" بسبب "خناقات" تقليدية متكررة في الصعيد بسبب "لعب عيال وبنات"، أو بسبب محاولة بعض المتطرفين من الإخوة المسيحيين فرض أمر واقع ببناء كنائس أو تحويل بيوت إلى كنائس دون ترخيص أو أي مستند قانوني، فإن الأولى بالسيسي أن يكون اهتمامه بالمؤسسة الدينية الإسلامية التي تمثل قرابة خمسة وثمانين مليون مسلم في مصر، ومئات الملايين خارجها، لأن إهانة الأزهر والإساءة إليه كما يفعل وزير الأوقاف الآن هي تهديد لأحد أهم مقومات نظام الحكم نفسه، وإضعاف الأزهر وتهميشه لا يعني أن عمامة مختار جمعة ستملأ الفراغ الذي تحدثه، فهو أهون من ذلك كثيرا، علميا وشعبيا، ولكن التطرف هو الذي سيملأ الفراغ، فالنتائج الحتمية لما يفعله الوزير الآن هي تفريغ الحالة الدينية لكي تتمدد فيها الجماعات الدينية المتطرفة، وتستغل الفراغ أصوات دعاة التطرف والتشنج، ثم تدفع البلد كلها الثمن بعد ذلك.
المصريون المصرية