بعد أحداث الجلاز الدامية سنة 1911 والتي سقط فيها شهداء تونسيون في مواجهة عصابات الجندرمة الفرنسية والمستوطنين الإيطاليين بتونس، كتب محمد المقداد الورتتاني، وهو أحد شيوخ الزيتونة وموظفي الأحباس (الأوقاف) ممن يدخلون قصر باي تونس ويأكلون على مائدته، كتابا سماه "البُرْنُسُ في باريس محترم وعزيز". والبرنس كما هو معروف لباس أهل إفريقية وقد كان كتابه وصفا لرحلة له إلى فرنسا تمتع فيها بكرم الدولة الحامية كما حرص على تسميتها. كشف الكتاب سعي صاحبه وهو من مثقفي المرحلة إلى تبييض المستعمر مقابل متع الرحلة.
بعد قرن يسافر الغنوشي إلى باريس دون برنسه، فهل تراه سافر لتبييض الدولة الحامية مرة أخرى أم تراه يعمل على قطع مشيمة الحماية لتأسيس فطام (استقلال) سياسي لدولة تونس القادمة؟ أم سافر يؤبد التبعية؟
الغنوشي كابوس فرنسا في تونس
بين الغنوشي والتيار الإسلامي عامة وفرنسا حرب غير معلنة. بدأت بظهور الغنوشي كداعية إسلامي في مشهد ثقافي تونسي يتفرنس على يد زعيم الحداثة الذي اختارته فرنسا ليقود بعدها المستعمرة القديمة. ويصنع منها هامشا صغيرا لجامعتها وثقافتها. فظهر لها الغنوشي نشازا في معزوفتها الفرانكفونية القائمة على أن ثقافة فرنسا تحمي اقتصادها. وفي الوقت (1981) الذي كان يزج فيه بالغنوشي وجماعته في السجون كان الحزب الشيوعي التونسي الذي ولد ذات يوم كفرع من الحزب الشيوعي الفرنسي رافضا الاستقلال عن فرنسا يحصل على تأشيرة الحزب السياسي ليواجه بالوكالة مع يسار آخر كثير مشروع الغنوشي ويقصيه من الوجود حتى حصول الثورة التونسية حين نبعت من تحت الأرض مطالب مطموسة بالقوة تربط بين الثورة وتحقيق الاستقلال والسيادة عن فرنسا بالذات. ووجدت فرنسا (وهي التي وقفت مع بن علي حتى الساعات الأخيرة) نفسها في قلب معركة التونسيين من أجل الحرية والكرامة خاصة بتقدم مطالب الثورة نحو استرجاع الثروات المنهوبة من قبل الشركات الفرنسية من الملح إلى النفط إلى الفوسفات.
طيلة سنوات التشريد كان الغنوشي ممنوعا من دخول الأراضي الفرنسية وحتى العبور في أجوائها. وكان فردريك ميتران وجاك لانق زعماء الثقافة الفرنسية يخططون للتونسيين فرجتهم وقراءتهم فصنعوا لهم سينماءهم ومسرحهم وتلفزاتهم. حتى صار الاعتراض على تفشي الفرنسية مرادفا للتمرد على النظام. فالدفاع عن اللغة العربية وإن لم يصدر عن جهة إسلامية يصنف في الخيانة الوطنية.
بعد الثورة تغيرت معطيات كثيرة في ما يبدو. وزار الغنوشي باريس مرات. ثم دعي كضيف للدولة الفرنسية ولحكومتها في زيارة يبدو أن لها ما بعدها، فما الذي جرى حتى تغير الموقف الفرنسي من الرجل وتياره؟ من الذي تغير في الواقع الغنوشي أم فرنسا؟
خسارات فرنسا في تونس
خسرت فرنسا بن علي ونظامه. لم يفدها الدفاع عنه حتى اللحظات الأخيرة. ولم تملك شجاعة احتضانه حين سقوطه فليس من طبعها الوفاء لعملائها. ولكنها لم تفقد أيد لها في تونس حتى انتخابات 2014. التي غيرت المعطيات على الأرض. تراجعت الأحزاب المحسوبة عليها أو القريبة منها ثقافيا واقتصاديا مثل حزب المسار (الحزب الشيوعي السابق) والتكتل والجمهوري وخسرت قبلهم حزب التجمع الذي وإن نفخ في صورته (النداء) إلا أنه انكشف عن عصابات من نهّابي المال العام والذين يشاهدهم التونسيون في حالة حرب كاسرة على مغانم مادية مباشرة عاجزين عن التآلف السياسي والعمل كبديل حقيقي للتجمع يمكن أن يضادد حزب النهضة في المستقبل.
لقد أنشأت فرنسا لها حزيبات موالية بعد الثورة مثل حزب آفاق لكنها وجدته حزبا ضعيفا ويزداد ضعفا لانكشاف ولاءاته غير الوطنية. ولم يفده كثيرا أن حشر في الحكومات ما بعد الثورة. وتيار الحداثة التونسية بشقيه اليساري واللبرالي والذي عاش طويلا من تسويق الهامش الثقافي الفرنسي يتراجع سياسيا ويعجز دون قطع الطريق على النهضة. أما النقابة ورغم جائزة نوبل التي افتكتها لها فرنسا فهي مهددة بالاختراق النهضاوي، فكل انتخاب ديمقراطي في هياكلها يبعدها عن اليسار النقابي ويمكن أن يقربها لحزب النهضة (الإسلامي) الذي لا يخفى طموحه للسيطرة على المنظمة.
لقد قضى الصندوق الانتخابي ولو في حده الأدنى على حلفاء فرنسا التقليديين فحجمهم في (صفر فاصل) وإلى الأبد. (ربما يفسر لنا هذا معاداة فرنسا للديمقراطية في مستعمراتها القديمة وتنظيمها للانقلابات في إفريقيا).
لذلك لا نشك في أن دوائر القرار الفرنسي قد طرحت السؤال: من لنا في تونس الآن؟ ولا يمكن أن تهرب من الواقع النهضة رقم يعسر بعد الآن تجاهله وإقصاؤه من احتمالات التوظيف أو التحالف. ونعتقد أن دعوة الغنوشي من قبل الخارجية الفرنسية كانت أول الإجابات عن هذا الشاغل الممض فاحتمال ابتعاد تونس عن فرنسا صار احتمالا واردا ما لم يستبق بمبادرة. لكن هل هي دعوة للاستصحاب أم للإخضاع؟
تعاون أم توظيف؟
النهضة حزب سياسي تعرض للإقصاء وبتأثير من فرنسا نفسها ولم تنقذه إلا الثورة. وهو يبحث عن التطبيع الجيوستراتيجي مع الوضع الإقليمي والدولي ويبذل من أجل هذا الاعتراف جهدا كبيرا وصل إلى حد التنصل من مرجعياته الأصولية ليقدم للعالم وجها مدنيا ينقذه من مصير الإخوان في مصر. ولا شك أن عينه الآن على السلطة بعد فشله في (غزوة الترويكا) وأحد مفاتيح حكم تونس موجود في الكي دورسيه (الخارجية الفرنسية) فهي التي تقرر من يحكم تونس رغم الظاهر السيادي المزعوم. وقد التقى الغريمان أخيرا لترتيب مشهد سياسي تونسي ما بعد السبسي المحتضر سياسيا وصحيا.
فما الذي يملك الغنوشي فعليا أن يقدمه نظير الاعتراف به كفاعل سياسي رئيسي في تونس وربما في المغرب العربي عامة؟ (يعرف الفرنسيون أن للغنوشي أصدقاء خاصة في ليبيا النفطية المضطربة بعد).
سبق للغنوشي في زيارات ثقافية غير رسمية (لإلقاء محاضرات في جامعات) أن صرح بأن اللّغة الفرنسية في تونس لغة قارة وليس في برنامجه تغييرها لصالح الإنجليزية. وهذه ورقة سجلتها فرنسا بكل سرور. كما سبق لحكومة الجبالي النهضوية أن مددت بعض الاتفاقيات الاستثمارية الموروثة من فترة الاستعمار ولم تضار مصالح المستثمرين الفرنسيين في عهد الترويكا. ولا يدور في حديث النهضة ما يشعر الفرنسيين بأنهم مرفوضون في تونس (تراجع الحديث عن اليوسفيين مقارنة بعام الثورة الأول) ورغم بعض الحماس الذي ظهر للشريك الألماني غير الاستعماري. فإن النهضة تذهب إلى فرنسا موالية وليس معادية ولا شك أنها تعرض التعاون بديلا للحرب لكن هل يكون تعاون الأنداد والشركاء؟
تونس خاصة والمغرب العربي عامة هو الحديقة الخلفية للاقتصاد الفرنسي هذا عرف دولي أوروبي سائد منذ منحت فرنسا حق احتلاله في القرن 19. وعجزت حتى الولايات المتحدة عن تغييره. ومهما قيل عن تراجع الاقتصاد الفرنسي الآن فهو لا يزال متقدما بسنوات ضوئية عن الاقتصاد التونسي ويمكنه أن يساعد لو أراد في إعادة إطلاق عمل تنموي في تونس لكنه اقتصاد يساعد بشروطه لا بشروط التونسيين، وهنا مربط الفرس، ليس بإمكان الغنوشي أن يحدث فرنسا عن الاستقلال والسيادة مقابل الاعتراف والندية. الهامش الوحيد المتروك له هو أن يعيد ترتيب العلاقات مع فرنسا بشروط فرنسا مقابل السماح له بالتنفس (دون أن يفرح بوضع مماثل لحزب التجمع سابقا).
الوضع التونسي الداخلي بشروطه القائمة سياسيا واقتصاديا لم يقلب وضع العلاقة بين تونس وفرنسا بشكل درامي يسمح للغنوشي بحديث عالي النبرة، فهو في زيارته هارب إليها من إقصاء داخلي لا يقبل به مهما أعلن ديمقراطيته وهذا يجعل فرنسا في وضع المتفضل على تونس وعلى أحزابها وعلى الإسلامي منها بالذات فهذه الأحزاب لا تزال في وضع تقديم الخدمة مقابل الاعتراف بها في وطنها (شيء مشابه للنفط مقابل الغذاء). وكل طموح سياسي إضافي من قبل أي تونسي لا بد من دفع ثمنه لفرنسا. إنه هروب من القطرة إلى الميزاب.
هنا تعرب الزيارة عن مكنونها. إن فرنسا تخترق الوضع التونسي إلى درجة لا يمكن فيها لفاعل سياسي مهما كانت طبيعته أن يعتمد على شعبه لتحقيق وجود سياسي ومشاركة في ديمقراطية ناشئة. لقد سار الغنوشي في هذه الزيارة مرغما على خطى بورقيبة رغم فارق الدوافع الداخلية بين الراغب والمضطر. وقد قادته فرنسا عبر ممر ضيق نحو غايتها مصالح فرنسا في تونس مقابل حقك في اوكسيجين بلدك الذي حرمك منه أبناء بلدك. ما زال بإمكان الغنوشي رغم الزيارة أن يصرح بأنه لو لم يقص من وكلاء فرنسا في الداخل طيلة نصف قرن لما ذهب إلى باريس يبحث عن عزة حرمه منها مواطنوه قبل أن تمنعه فرنسا. لقد سيق الغنوشي إلى فرنسا سوقا. في سياق اللحظة التونسية البائسة التي جعلته وهو الحزب الأغلبي في البرلمان يسند حكومة يشكلها حزب المسار الصفر فاصل.