قضايا وآراء

استفتاء بريطانيا.. الطلاق البائن

1300x600
قال البريطانيون كلمتَهم.. مارسُوا، كعادتهم، حريتَهم في استفتاء البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي.. وفي يوم الخميس 23 يونيو/ حزيران 2016، خلقوا لحظةَ فرحة لبعضِهم، وصَدموا آخرين من بني جلدتهم ومن العالم من حولِهم، حين صوتوا بنسبة 51.9% لصالح تطليق الإتحاد الأوروبي، والعودة إلى جزيرتهم غير الأوروبية، كما كان ينعتها الرئيس الفرنسي ومؤسس الجمهورية الخامسة "الجنرال ديغول". 

لاشك أن مِّلفَ خروجِ بريطانيا من الإتحاد الأوروبي سيبقى مفتوحاً على النقاش والجدل والاختلاف، داخل المجتمع البريطاني، وعلى صعيد العالم، ولا شك أن له تداعيات كثيرة وعميقة، منها ما هي منظورة وقابلة للمعاينة والقياس، ومنها ما هي غير منظورة وغير متوقعة. ولا يختلف اثنان، ممَّن تابعوا استفتاء الخميس الماضي، ويهُمهم فهمَ ما ستترتب عنه من نتائج، في أن الصعوبات والخسائر أكثر من الفوائد والمنافع على الأقل في الزمنين القريب والمتوسط. فمسيرة الخروج النهائي من الإتحاد الأوروبي ستستغرق وقتاً وجهداً، وستتطلب إعادة تكيّف ومواءمة للمؤسسات والاتفاقيات والتشريعات، والالتزامات المتبادلة عُموماُ، ودون شك ستستلزم إعادة تشكيل ذهنية البريطانيين وترويضهم على التفكير في بريطانيا بالمُفرد، وليس النظر إلى بلدهم كقطعة من فضاء أوسع  اسمه أوروبا الموحدة، الممتدة من الأطلسي إلى جبال الأورال".

كشف الاستفتاء الذي صوت البريطانيون بمقتضاه لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبي عن مفارقات نبّهت البريطانيين أنفسهم إلى عُمق الإختلالات التي تعتمل داخل مجتمعهم، والتي تدعوهُم جميعا ًإلى تحليلها ومعالجتها بقدر كبير من العناية والعُمق. من أولى هذه المفارقات اللافِتة ظهور بريطانيا بلداً منقسماً حيث صوتت لندن واسكتلندا وأيرلندا الشمالية لخيار البقاء في حظيرة الإتحاد الأوروبي، بينما صوت شمال انجلترا أو ويلز لفائدة الخروج.. وتجلت المفارقة الثانية في اصطفاف شباب بريطانيا لدعم الاستمرار في أوروبا بينما دافع ودعّم شيوخُهم  تطليق أوروبا والحنين إلى بريطانيا المنغلقة في جزيرتها وتاريخها التليد. ثم بينما امتلك أنصار البقاء في أوروبا رؤية واضحة لضرورات الاستمرار ومنافعه، اقتصر مناهضوه على العزف على لحن السيادة الوطنية، وشحن وجدان البريطانيين بالعودة إلى ماضيهم وعظمة تاريخهم، دون اكتراث بالتغيرات العميقة التي شهدها العالم بشكل متسارع نهاية القرن الماضي ومستهل الألفية الجديدة، ودون استحضار دقيق للتحديات التي ستواجه مسيرة بريطانيا ما بعد الخروج.

الآن وبعدما حصل الاستفتاء، وأفضت نتائجُه إلى تأييد خيار الخروج، وأعلِن رسميا عن الطلاق البائن بين بريطانيا وشركائها في أوربا، ما المنتظر؟ وما العمل؟ وما السبيل إلى المحافظة على بريطانيا دولة متماسكة وقوية وفاعِلة في المنتظم الدولي؟

لاشك أن هذه الأسئلة وغيرها، وهي كثيرة ومتناسلة، ستواجهها بريطانيا، وتكون مرغمةً على التفكير فيها، والتعاطي مع تداعياتها. لنبدأ أولا ببعض ما بدأ يطفح  على السطح  في بريطانيا حتى قبيل عملية الاستفتاء، وفي مقدمتها المحافظة على تماسك بريطانيا الداخلي. فالحاصل أن نزعة انفصال اسكتلنده عن بريطانيا ستتزايد، لاسيما وأنها صوتت لصالح خيار البقاء في الإتحاد الأوروبي ومنادية لإعادة الانضمام إلى حظيرته، والأمر نفسه ينسحب على ايرلندا الشمالية. لذلك، سيحتدُّ سؤال استمرار بريطانيا متماسكة وقوية  من عدمه، وهو من الأسئلة التي أفضى إليها انقسام البريطانيين حول البقاء أو الخروج من أوروبا. ثم إن الكتلة الديمغرافية الكبيرة والواسعة التي يمثلها الشباب لن تسكت وستواصل التشكيك في صحة وصدقية قرار الانسحاب من الفضاء الأوروبي، وقد بدأت حركة المناداة بإعادة النظر في اختيار الخروج بقوة ونغمة حادتين، عبر التوقيع على العرائض، واستثمار إمكانيات شبكة التواصل  الاجتماعي، والمناداة بتنظيم استفتاء جديد. وعلاوة على كل هذا، ستجد بريطانيا نفسها أمام مسار شاق حين تبدأ في ترسيم قرار الخروج في الشهور المقبلة، سواء في علاقتها بمؤسسات الإتحاد الأوروبي والتزاماتها حُياله، أو في صلتها بالشركاء الذين تجمعهم وإياها علاقات ثنائية، أو في تعاطيها مع أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في أعقاب انسحابها من أوروبا.

قد يقول قائل إن لبريطانيا من الكفاءة والاقتدار والحِنكة ما يمكنها من إدارة أزمة الخروج من أوروبا، ويُسعفها في استعادة عافيتها واستقرارها، وهذا صحيح، بالنظر لأرصدة بريطانيا القوية في مضمار البناء الديمقراطي، والذكاء الاقتصادي، والتوازن الاجتماعي. ومع ذلك، تُجمع جل الآراء وتوقعات المحللين للشأن البريطاني أن سنوات من شدِّ الأحزمة تنتظر البريطانيين، وربما غير المتوقع من الأحداث والوقائع سيكون ضاغِطاً أكثر، ومؤثراً بشكل أعمق. 

لكن ألا يتساءل معنا القارئ الكريم عما سيفتح خيار خروج  البريطانيين من الإتحاد الأوروبي من إمكانيات التغيير في رؤية البناء الأوروبي وفلسفته وآليات اشتغاله؟ أليس في هذه النقمة مع ذلك، نِعمة بالنسبة لباقي أعضاء الفضاء الأوروبي السبعة والعشرين؟

نطرح هذا الأسئلة من زاوية النقد الذي وجهه البريطانيون المنادون بالخروج حُيال عناصر ضعف  البناء الأوروبي، وضرورات الانسحاب منه. فقد انتقدوا كل جوانب أداء مؤسسات الإتحاد الأوروبي، انطلاقاً من بيروقراطية موظفيها وجمودهم وبطء عملهم، وضخامة تعويضاتهم، ومروراً بالفجوة القائمة بينهم وبين المواطنين الأوروبيين، ووصولاً إلى حقيقة النتائج والفوائد التي جناها البريطانيون على امتداد أكثر من أربعين سنة من عضويتهم في  أجهزة الإتحاد، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، وحتى الرياضة.

لقد حصل الطلاق البائن مع الإتحاد الأوروبي بعد تصويت البريطانيين لغير صالح الاستمرار في حظيرته، وكأي طلاق له كلفته وخَلاصه، أي فوائده، ودون شك ستكون له ارتداداته الكثيرة والعميقة، وستكون له كبواته، لكن بالتأكيد سيولّد لأنصاره طاقات متجددة لتجاوزه، أو على الأقل التكيّف معه، إلى حين اكتمال شروط تجاوزه.