قضايا وآراء

أيها المحلفون.. الله لا الملك

1300x600
لم تنشأ معضلة مدى أخلاقية وشرعية حروب الدولة الحديثة في النمط الحالي للدول الوطنية التي تشكل العالم الآن والتي نشأت في حقبة ما بعد الاستعمار. فهناك جذور لهذه المعضلة خلال فترة الاستعمار الغربي العسكري للدول الإسلامية ربما تشكل جذور مشكلة العنف التي يعاني منها المسلمون اليوم وسؤال من الذي من حقه حمل السلاح؟ وهناك مثالان خلال القرن المنصرم يوضحان هذه المعضلة بصيغة جلية وطرق التصدي لها. أحدهما هو محمد علي جوهر المعروف باسم مولانا محمد علي في الهند عام 1921 والآخر هو الملاكم محمد علي في الولايات المتحدة الذي وافته المنية قبل أيام.

كان مولانا محمد علي زعيما وشاعرا وصحفيا مسلما في الهند مطلع القرن العشرين. وكان أحد القادة الوطنيين المنادين بالاستقلال. وفي عام 1919 شكل وفدا من مسلمي الهند وذهبوا إلى بريطانيا لمطالبة الحكومة هناك بالمساعدة في عرقلة خلع مصطفى كمال أتاتورك للسلطان العثماني. لكن طلبه ووجه بالرفض فأسس حركة الخلافة التي دعت المسلمين في الهند إلى الاحتجاج ومقاطعة حكومة الاحتلال الانجليزي في ذلك الوقت.

كانت الإمبراطورية البريطانية تعتمد على المقاتلين الهنود في حروبها، وكان هناك تأثير كبير لحركة محمد علي والأدلة التي ساقها من القرآن والسنة التي تحرم العمل الحكومي بشكل عام والمشاركة في القوات المسلحة بشكل خاص. فحدثت أزمة للبريطانيين في أكبر مستعمراتهم، وقدم محمد علي وشقيقه وخمسة آخرين إلى المحاكمة في كراتشي عام 1921.

وقف علي أمام المحكمة مترافعا عن نفسه والمتهمين الآخرين. وبدأ بإقرار التهمة الموجهة إليه وحقه كمسلم في الامتناع عن القتال في صفوف الجيش البريطاني لقتل مسلمين آخرين، ثم طلب أن يكون في مكان يرى من خلاله المحلفين وجه لوجه. وكان النظام القضائي في ذلك الحين يعتمد على قضاة وهيئة محلفين كانوا خمسة: اثنان هندوسيان وثلاثة أوروبيين مسيحيين.

وجال علي في مرافعته بين تعاليم الإسلام والمسيحية وفلسفة القوانين الغربية وإطار الحقوق والواجبات بشكل يجعل من هذه المرافعة قطعة فلسفية قانونية وأدبية راقية لم تغب عنها روح السخرية التي دفعت القاعة للضحك بين الفينة والأخرى. وكان الحكم النهائي صادما للجميع، إذ نال مولانا محمد علي حكم البراءة في اتهام يصل للخيانة العظمى، وكان متوقعا أن ينزل به أشد العقاب.

نص المرافعة الأصلي باللغة الإنجليزية بالإضافة للترجمة العربية متاح في العديد من الكتب، منها كتاب بالعربية تحت عنوان "أيها المحلفون، الله لا الملك". لكن المهم في هذه القضية هو السياق الزماني والمكاني لها والسابقة القضائية في إقرار حق مسلم في عدم رفع السلاح على أخيه المسلم تحت راية الدولة الوطنية. الأمر الذي يطرح سؤال واجبات المواطنة في إطار أخلاقي وديني ومعايير الحكم على هذا وذاك.

الأمر ذاته تكرر بشكل آخر مع الملاكم الأمريكي المسلم محمد علي حين رفض أداء الخدمة العسكرية والقتال في صفوف القوات الأمريكية في فيتنام عام 1966. حينها كان الاختبار عسيرا ربما، لأن ثمنه كان يشمل تجريد هذا الرياضي من لقبه بطلا للعالم في الملاكمة في الوزن الثقيل عام 1967 والحكم عليه بالسجن خمس سنوات والحرمان من منازلات الملاكمة لمدة ثلاث سنوات بالإضافة لغرامة قدرها عشرة آلاف دولار.

طعن محمد علي على هذا الحكم، وربح الاستئناف عام 1970 ليعود ويسترد اللقب عام 1971 مرة أخرى. لكنه رسخ لمبدأ رفض حرب أناس أبرياء ولو على غير دينه قائلا قولته المشهورة: "هذه الحرب ضد تعاليم القرآن وأننا كمسلمين ليس من المفترض أن نخوض حروبا إلا إذا كانت في سبيل الله".
 
ولم يكن هذا الموقف منبت الصلة عن مواقفه الأخرى المناهضة للتمييز الذي يعاني منه السود في الولايات المتحدة. وكان هو والزعيم الأمريكي المسلم الحاج مالك شباز أو مالكوم أكس، أحد رموز حركة الحريات المدنية التي تنادي بالمساواة، ولم تكن تفصل بين معتقادتها الدينية كمسلمين والدعوة إلى الحرية والمساواة. إذ ترى أن الإسلام هو الإطار الطبيعي للحرية.

لقد حظي إسلام الملاكم محمد علي بشهرة كبيرة كما حظي موقفه من حرب فيتنام بإشادة بعد أكثر من أربعة عقود أظهرت وجها قبيحا لتلك الحرب لم يكن هو السائد حينها.

وقد آن الأوان لتحظى مبادئه ودوافع مواقفه تلك بالاهتمام الذي يليق به هو ومولانا محمد علي. ليس فقط لأن التجربة الهندية في التحرر والتعايش تستحق الدراسة أو أن الولايات المتحدة هي القوى العظمى المهيمنة الآن، ولكن أيضا لأن دراسة مواقف المحجمين، لأسباب دينية، عن المشاركة في عنف الدولة قد تسهل الوصول لفهم وكيفية التعامل مع من تجاوزوا إطار الدولة وأرادوا قتالها لأسباب دينية.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع