بورتريه

العبادي.. تسويق "معركة الفلوجة" كما لو كانت لعبة "بلايستيشن"

حيدر العبادي- عربي21
كان أقرب لمندوب المبيعات حين أرسل مندوبيه إلى العواصم العربية لتسويق العملية الأمنية ضد الفلوجة، والتي لم يستطع حتى أكثر الداعمين لها إنكار حجم الفظائع التي ارتكبت فيها من قبل "الحشد الشعبي" والمليشيات الأخرى، التي قدمت مقاربة صادمة مع ما يفعله "تنظيم الدولة / داعش".

جاء رئيسا للحكومة بعد أن استنفد رئيس الوزراء العراق، نوري المالكي، دوره، واحترقت ورقته، وأزكمت رائحة الطائفية في حكومته الأنوف حتى أنوف حلفائه ومعهم الولايات المتحدة الأمريكية، واتفق الجميع على رحيله. المالكي كان أمام خيار وحيد، وهو يرى جيشه يفر مهزوما من ساحة المعركة لصالح "تنظيم الدولة"، أن يقدم استقالته ويرضى بصفقة ترك السلطة مقابل عدم المطاردة القانونية بوصفه من المتهمين بإنشاء فرق الموت الطائفية.

وكان البديل مساعد المالكي السابق، حيدر العبادي، نائب رئيس مجلس النواب، وينتمي إلى "حزب الدعوة" الذي ينتمي إليه المالكي أيضا، إثر توافق الأحزاب على أن هذه الشخصية المقلة في الظهور الإعلامي، تتماشى بشكل جيد مع قادة الأكراد، وتحظى بفرصة كبيرة لإرضاء المسلمين السنة الذين دفعهم اشمئزازهم من تصرفات المالكي الإقصائية والطائفية إلى الانضمام إلى مقاتلي "تنظيم الدولة".

ويقال إن الإيرانيين والأمريكيين أجروا محادثات حول المرشحين المحتملين لخلافة المالكي، وبعد ثلاث جولات من المحادثات على الأقل اتفقوا على العبادي، ووافقت إيران على إقناع الجماعات الشيعية بدعمه، وشارك في هذه الجهود عدد من أئمة النجف، كما ساهموا في حشد الدعم للعبادي.

وهو ما نفاه مسؤول أمريكي، مؤكدا أن واشنطن لم تدفع باتجاه حيدر العبادي إلى مقاليد السلطة، وقال إن اسمه طرح عبر القنوات السياسية العراقية.

وبدا العبادي خيارا ملائما لرجال الدين وغيرهم من قادة الكتل والأحزاب، رغم أنه أمضى أكثر من عقدين في المنفى عاملا في مجال الأعمال في بريطانيا، بينما كان يروج للتعاليم الإسلامية لـ"حزب الدعوة".

وعاد العبادي إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وانتهى به الأمر كمستشار للمالكي.

ورغم قربه من المالكي لكن العبادي لم يكن تابعا له، ولم يكن ضمن دائرة المقربين من المالكي، وبالتالي فإن اختياره لم يكن ليقصي التيار الشيعي الرئيسي، وفي الوقت نفسه لن يعطي المالكي فرصة ليحكم من وراء الستار.

حيدر جواد العبادي، المولود في بغداد عام 1952، عاش رفقة أسرته في منطقة الكرادة الشرقية، عرفت بالتجارة ومحلات العطارة، ونال البكالوريوس من الجامعة التكنولوجية قسم الهندسة الكهربائية ببغداد عام 1975.

هاجر من العراق بداية السبعينيات لإكمال دراسته في بريطانيا، وحصل على الماجستير عام 1977، ثم الدكتوراه عام 1980 من جامعة مانشستر البريطانية، في تخصص الهندسة الكهربائية، وبقي في لندن منذ ذلك الحين حتى عام 2003 بعد الغزو الأمريكي.

أصدر كراسا يشرح فيه مسيرته مع "حزب الدعوة الإسلامية"، ضمن حملته للدعاية الانتخابية الحزبية، ذكر فيه أنه انتمى إلى الحزب عام 1967، وكان عمره آنذاك خمسة عشر عاما، واختير مسؤولا لتنظيمات الحزب في بريطانيا عام 1977.

وفي عام 1980 اختير مسؤولا لمكتب الشرق الأوسط للحزب، الذي كان مقره في بيروت، لكنه ظل يدير المكتب من لندن ما ولد إشكالات داخل الحزب أدت إلى استبداله.

سمى "حزب الدعوة" العبادي متحدثا باسمه، لكنه لم يكن يظهر عبر وسائل الإعلام إلا قليلا، تقلد منصب وزير الاتصالات في الحكومة الانتقالية التي ترأسها إياد علاوي، ثم نائبا في البرلمان عام 2005 وحتى الآن.

طرح اسمه سابقا كأحد أبرز مرشحي "الدعوة" لرئاسة الوزراء عام 2006، أثناء عملية استبدال إبراهيم الجعفري، وعاد ليطرح اسمه من جديد وسط مفاوضات تشكيل الحكومة عام 2010، وفي المرة الثالثة في آب/ أغسطس الماضي كلفه التحالف الوطني ورئيس الجمهورية فؤاد معصوم بتشكيل الحكومة.

ونجح في الظفر بالمنصب وسط أصوات تتعالى محذرة من تقسيم العراق، ومن موجات هجرة سكانية دينية وعرقية ومذهبية نتيجة لنحو ثماني سنوات عجاف من حكم المالكي، ومن مخاوف بدت حقيقة قد يسببها "تنظيم الدولة" في اتساع رقعة الشحن الطائفي في بلاد تموج بالصراعات السياسية والمسلحة.

في أب/ أغسطس عام 2015 أعلن العبادي عن مجموعة قرارات وإصلاحات أبرزها إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية (نوري المالكي، وأسامة النجيفي، وإياد علاوي) ونواب رئيس مجلس الوزراء (بهاء الأعرجي، وصالح المطلك، وروز نوري شاويس) في استجابة للاحتجاجات الشعبية.

وكان على العبادي أن يتعاطى مع أوضاع داخلية متأزمة، وكان التحدي الأكبر أمام الحكومة هو استعادة المدن العراقية التي سيطر عليها "تنظيم الدولة" والتي تصادف بأنها مدن سنية، فخاضت قوات من"الحشد الشعبي" ومليشيات موالية لإيران مع الجيش العراقي الرسمي معارك في تلك المدن مخلفة وراءها كوارث إنسانية وصفتها منظمات دولية مثل"هيومن رايست ووتش" بأنها ترقى إلى جرائم الحرب.

وحاول العبادي الاستفادة من أخطاء معركة "تحرير" الأنبار وغيرها في مساعيه لاستعادة مدينة الفلوجة، لكنه ما لبث أن توقف في منتصف الطريق بعد أن طغت الخطابات والحديث عن الممارسات والانتهاكات الطائفية على مجريات المعارك، واضطر المالكي إلى الاعتراف بها، واتخاذ إجراءات للحد منها، وإرسال وفود لبعض الدول العربية لشرح الموقف الرسمي مما يجري في محيط الفلوجة.

من جانب آخر، أثار وجود سليماني، الذي يثير هو وإيران حساسية خاصة فيما يرتبط بالشعور الوطني العراقي، تتجاوز المسألة الطائفية لتبلغ الجانب القومي، وتعود أبعادها عميقا في التاريخ بين العراق وإيران. وبدا ذلك واضحا من خلال هتاف أتباع مقتدى الصدر في نيسان/ أبريل الماضي من داخل "المنطقة الخضراء": "إيران برا برا" و"خل يسمع سليماني، هذا الصدر رباني".

ويعد "‏تحرير" الفلوجة بالنسبة لأغلبية العراقيين معركة وطنية تكتسب أهميتها بسبب رمزيتها التي ترسخت بعد عام 2003، و"تحريرها" اليوم من شأنه أن يبني العصب الوطني الذي يرى كثيرون أنه تحلل بعد ذلك العام.

معركة الفلوجة، التي سماها قائد "الحشد الشعبي" هادي العامري "المعركة الكبرى"، هي هروب للأمام من صراع بعض فصائل الحشد مع بعضها البعض على أبواب "المنطقة الخضراء"، إلى معركتها الأخرى على أبواب الفلوجة.

ورغم أن وجود اتفاق بين سليماني وبين الحكومة، لكن تبقى معركة الفلوجة الاختبار الحقيقي للعبادي في قدرته على تحييد فصائل "الحشد الشعبي" بعيدا عن "الحرس الثوري"، وفي لجم الممارسات الطائفية لبعض فصائل الحشد.

وبدت مهمة العبادي معقدة ومربكة بعد أن نشرت تقارير إعلامية كثيرة من بينها تقرير صحيفة "واشنطن بوست" الذي كشف أن مقاتلي "تنظيم الدولة" يطلقون النار على العراقيين الذين يحاولون الهروب من مدينة الفلوجة، في وقت تقوم فيه القوات الموالية للحكومة بالضرب والتعذيب خلال المعركة لاستعادة المنطقة، بحسب منظمة "هيومان رايتس ووتش" والمسؤولين العراقيين.

ويشير التقرير إلى أن مقاتلي "تنظيم الدولة" يستخدمون المدنيين العالقين الذين يقدر عددهم بـ50 ألف شخص في المدينة التي تحاصرها الحكومة، دروعا بشرية، وقتلوا أولئك الذين حاولوا الهروب، فيما يقوم رجال المليشيات الشيعية بالقبض على الرجال الهاربين من الفلوجة والمناطق المحيطة وضربهم بقسوة، حيث مات على الأقل أربعة رجال متأثرين بجراحهم، بحسب المسؤولين المحليين المطلعين على الحادثة.

العبادي يحاول جاهدا ألا تصبغ مرحلته بشبهة الطائفية لكنه يواجه، إضافة إلى معارك استعادة مدنه من "تنظيم الدولة"، أزمات سياسية متتالية ولعل آخر شيء يحتاجه البلد أزمة سياسية جديدة بعد قيام مجموعة من الغاضبين قبل أيام بإحراق مقار الأحزاب الإسلامية ومن بينها مقر حزب العبادي نفسه "حزب الدعوة".

وقبل ذلك واجه مشكلة سيطرة المؤيدين لمقتدى الصدر على مجلس النواب، وسبقتها في آذار/ مارس الماضي مشكلة إعادة تشكيل الحكومة من دون موافقة الأحزاب السياسية التي تهيمن على البرلمان.

رعاة العبادي في طهران وواشنطن لا يرغبون في أي أزمة سياسية جديدة في البلاد خشية أن تفضي المفاوضات المطولة حول خلافته إلى دفع الأحزاب الشيعية نحو مزيد من الانقسام، ومن أن يفضي نشوب أزمة سياسية في بغداد إلى إرجاء الحملة لاستعادة الموصل من قبضة "تنظيم الدولة"، كما يمكن أن تخرج الأزمة السياسية الجهود التي بذلها العراقيون للتعامل مع مشاكلهم الحالية عن مسارها.

العبادي مرتبك وواقع بين خيارات ضيقة، فالملفات تتشابك أمامه، الأحزاب السياسية الهشة والصراع فيما بينها على "الكعكة العراقية" من جهة، والأزمة الاقتصادية والفساد والتقارير الدولية التي تضع العراق ضمن الدول غير الآمنة والفاشلة، والشحن الطائفي المدمر للذات العراقية وللوجود العراقي، كلها أزمات تحد من قدرات العبادي وحكومته وجيشه على منع إراقة مزيد من دماء الأبرياء في المدن السنية التي "تحرر".

العبادي يقف على حافة السكين، أو هو يوشك أن يقع من قمة جبل إلى واد سحيق، ما لم يضع حدا للمليشيات المنفلتة وللتدخلات الإيرانية المزعجة والمقلقة في الشأن العراقي.