نشر العدد الأخير من مجلة "فايننس أند ديفلوبمنت"، الصادرة عن
صندوق النقد الدولي،
دراسة مهمة أعدها كل من جوناثان دي أوستري وبراكاش لونغاني وديفيد فورسيري، عن
الليبرالية الجديدة، التي قالوا إنه "بولغ" في بيعها.
وبدأ الباحثون الثلاثة بالحديث عن مقولة ميلتون فريدمان، الذي أثنى على التشيلي في عام 1982، باعتبارها "معجزة
اقتصادية"، حيث كانت التشيلي قد تبنت في السبعينيات ما جرى التعارف عليه تقليديا "الليبرالية الجديدة"، وهي كما يقول الكتاب، اسم استخدمه النقاد أكثر من المعماريين، الذين صمموا هذه السياسات.
ويشير التقرير إلى أن أجندة الليبرالية الجديدة تقوم على عمادين؛ الأول زيادة في التنافس الذي يتم من خلال تخفيف القيود عن السوق المحلية وفتحها للتنافس الخارجي، أما الثاني، فهو تحديد الدولة بخصخصة وتحديد قدرة الحكومات على المعاناة من العجز في
الميزانية ومراكمة الدين.
وتبين المجلة أنه بحسب المؤشر الذي يقيس المدى الذي أدخلت فيه الحكومات التنافس في نشاطات الاقتصاد المتعددة، من أجل تقوية النمو الاقتصادي، فإن الميل نحو تبني السياسات الليبرالية الجديدة في تزايد منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، مشيرة إلى أنه بحسب البيانات المتوفرة، فقد توجهت التشيلي نحو الليبرالية الجديدة في عقد مبكر، وظلت تدفع بسياسات جعلتها تقترب من الولايات المتحدة، فيما قامت دول أخرى بتبني سياسات مماثلة.
ويعلق الكتاب بأن "هناك الكثير مما يمكن الاحتفال به نتيجة لأجندة الليبرالية الجديدة، حيث إن توسع التجارة العالمية أنقذ الملايين من الفقر المدقع، فيما كانت الاستثمارات الدولية وسيلة لنقل التكنولوجيا والمعرفة المتصلة بها للدول النامية، وفي معظم الحالات، التي تبنت فيها الدول سياسات خصخصة للمؤسسات التابعة للدولة، فقد قادت إلى خدمات أكثر فعالية، وخفضت من أعباء العجز في المالية العامة، لكن هناك عددا من الملامح التي فشلت فيها الليبرالية الجديدة في تقديم ما هو متوقع منها".
ويلفت التقرير في فحص لملمحين من ملامح الفشل، إلى سياسة رفع القيود عن حركة رأس المال داخل حدود البلد، أو ما يطلق عليها "لبرلة حساب رأس المال" وسياسة تعزيز الميزانية، أو ما يطلق عليها أحيانا بالتقشف، التي هي مختصر لتخفيف العجز في الميزانية ومستويات الدين.
وترى المجلة أن تقييما لهاتين السياستين، بدلا من البحث في أجندة الليبرالية الجديدة بشكل عام، يقود إلى ثلاث نتائج مثيرة للقلق، وهي:
الأولى: من الصعب تحديد المنافع المتعلقة بزيادة النمو عندما يتم النظر، وبطريقة واسعة، لعدد واسع من الدول.
الثانية: الثمن المتعلق بزيادة التفاوت كبير، حيث إن الثمن المدفوع الناجم عن مقايضة النمو بالأسهم يؤثر في بعض ملامح أجندة الليبرالية الجديدة.
الثالثة: زيادة عدم المساواة يؤثر في عملية الحفاظ على النمو، وحتى لو كان النمو هو الهدف الأول لأجندة الليبرالية الجديدة، حيث إن على المدافعين عنها النظر في طرق توزيع الآثار.
وينوه الباحثون إلى ما كتبه موريس أوبستفيلد عام 1988 عن النظرية الاقتصادية، التي لا تترك مجالا حول احتمالات المنافع للبرلة حساب رأس المال، التي يطلق عليها أحيانا الانفتاح الاقتصادي، وهي السياسة التي تسمح لرأس مال السوق العالمية لنقل مدخراتهة الدولية واستخدامها في مجالاتها الإنتاجية على مستوى العالم، حيث يمكن للدول النامية، التي لا تملك إلا رأس مال قليلا اقتراض المال لتمويل استثماراتها، وبالتالي دفع نموها الاقتصادي دون اللجوء إلى زيادة حصتها من المدخرات.
ويستدرك التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، بأن أوبستفيلد أشار إلى "خطورة حقيقية" للانفتاح على تدفق المال العالمي، وتوصل إلى نتيجة وهي أن "ثنائية المنافع والمخاطر لا يمكن تجنبها في العالم الحقيقي"، لافتا إلى أن هذا هو الواقع، حيث إن تدفق بعض المال العالمي، الذي قد يشمل على نقل التكنولوجيا والرأسمال البشري، قد يؤدي إلى نمو طويل الأمد، لكن أثر تدفق الأمور الأخرى، مثل الاستثمارات الكبيرة والمراهنات البنكية، أيا كان نوعها، لا يؤدي إلى النمو الاقتصادي، ولا يسمح للدول بالتشارك في المخاطر مع شركائها، وهذا يعني أن النمو والتشارك في المخاطر يعتمد على أي نوع من رأسمال يجب نقله، وربما اعتمد على طبيعة دعم المؤسسات والسياسات.
وتذكر المجلة أنه في الوقت الذي لا يوجد فيه ما يضمن المنافع، إلا أن الثمن المتعلق بتعرض الاقتصاد للأزمات واضحة، حيث شهدت السوق العالمية منذ عام 1980 150 حالة تدفق فيها المال في أكثر من 50 سوق نامية، وفي 20% منها انتهت بأزمة مالية، وارتبطت معظم هذه الأزمات بتراجع المنتجات.
ويقول الباحتون إن استمرار حالات الازدهار والكساد يعطي مصداقية لمزاعم الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد بأن هذه الحالات "ليست عرضا جانبيا، أو حادثا عرضيا، أصاب تدفق رأس المال العالمي، فهذه هي القصة الرئيسة"، مستدركين بأنه مع وجود عدد من الأدوات التي تدفع بهذا الاتجاه، إلا أن زيادة الانفتاح في رأس المال تؤدي دورا في هذه الدورات، فبالإضافة إلى زيادة معدلات انهيار السوق، فإن الانفتاح المالي له آثار موزعة، كما أن مخاطر الانفتاح على عدم المساواة تزيد عندما يحصل الانهيار.
ويشير التقرير إلى أن الثمن الباهظ بالنسبة للمنافع الناجم عن الانفتاح، دفع النائب الأول السابق للمدير الإداري، ونائب مجلس إدارة الخزانة الأمريكي ستانلي فيشر إلى التساؤل: "ما هو الهدف الذي تم تحقيقه من خلال تدفق رأس المال العالمي؟".
وتبين المجلة أن صناع السياسة اليوم يتقبلون، وبشكل متزايد، التحكم من أجل تحديد الدين قصير المدى، الذي قد يؤدي، أي الدين، إلى زيادة أو مفاقمة الأزمات المالية.
ويورد الباحثون أن الجانب الآخر للأجندة، التي تهدف الليبرالية الجديدة إلى تحقيقها، هو تخفيض حجم الدولة، حيث يتم هذا من خلال عمليات الخصخصة لبعض وظائف الدولة، أما الطريقة الأخرى فتتم عبر تخفيض الإنفاق الحكومي العام، من خلال تحديد حجم العجز في الميزانية، والحد من قدرة الحكومة على مراكمة الديون.
ويفيد التقرير بأن التاريخ الاقتصادي الحديث يقدم عددا من الأمثلة عن هذه المحددات، من مثل تحديده بنسبة 60% من الدخل القومي العام كشرط لانضمام الدول إلى المنطقة الأوروبية، التي كانت تعرف بالماستريخت، مشيرا إلى أن النظرية الاقتصادية لا تقدم إرشادات حول كيفية تحقيق الحد من الدين العام، حيث إن بعض النظريات ترى أن مستويات عالية للدين ضرورية، وأخرى تشترط مستويات منخفضة.
وبحسب المجلة، فإن صندوق النقد الدولي كان معنيا بالسرعة التي تخفض فيها الحكومات العجز ومستويات الدين، بعد تزايد معدلات الدين في الدول المتقدمة؛ نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية، حيث إن سياسة بطيئة ستؤدي إلى قلق السوق، وفي المقابل فإن سياسة سريعة ستعوق التعافي، لافتة إلى أن صندوق النقد الدولي ناقش ضرورة دفع حصص الدين على المدى المتوسط في الدول المتقدمة والمتطورة، كتأمين ضد أي صدمة في المستقبل.
ويتساءل الباحثون عن المنطق الذي يمكن الدفاع عنه لدول، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بشأن تسديد الدين العام المستحق عليهما، ويقولون: "نحن أمام رأيين فيما يتعلق بالدول التي لديها مساحة واسعة من التحكم في الميزانية ومنظور قليل لمعاناتها أزمة؛ الأول يرى أن الأزمات العالمية مثل الكساد العالمي في الثلاثينيات، والأزمة المالية الأخيرة تحدث نادرا، لكن من الأفضل استخدام الأوقات الهادئة لتسديد الدين، أما الرأي الثاني فيجد أن وجود دين كبير لا يساعد على النمو، وأنه من أجل وضع أساس قوي للنمو فلابد من تسديد الدين".
ويؤكد التقرير أن هذه هي حال الدول في جنوب أوروبا، التي لا مجال لها إلا الانخراط في مجال تقوية الميزانية؛ لأن الأسواق لن تسمح لها بالاقتراض، مشيرا إلى أن هذا لا يعد القاعدة التي تناسب الدول كلها؛ لأن الأسواق لا تهتم بالاحتمالات الضعيفة للدين بالنسبة للدول التي لديها سجل جيد من ناحية الميزانية العامة والمسؤولية، حيث إن سجلا جيدا يمنح هذه الدول الخيار بعدم زيادة الضريبة، أو خفض الإنفاق المتعلق بالإنتاج عندما يكون مستوى الدين عاليا.
وتذكر المجلة أنه "بالنسبة للدول ذات السجل الجيد، فإن منافع تخفيض الدين، وكونه تأمينا ضد حدوث أزمة مالية مستقبلية، تظل قليلة، حتى لو كانت مستويات الدين عالية أمام الدخل القومي العام، حيث إن الانتقال مثلا من نسبة 120% من الدخل القومي العام إلى نسبة 100% من الدخل القومي العام، وعلى مدار سنوات عدة، لا يقدم للدولة إلا شيئا قليلا بالنسبة لتخفيض مخاطر التعرض لأزمة، وحتى لو كانت المنافع قليلة، فمن الأفضل التعرض له إن كان الثمن متدنيا، وعلى ما يبدو فإن الثمن قد يكون عاليا أعلى من المنافع، والسبب هو أنك تحتاج للوصول إلى مستوى متدن للدين بأن ترفع الضريبة وتخفض من النفقات، ومن هنا فإن ثمن رفع الضريبة أو خفض النفقات قد يكون أعلى تخفيض مخاطر التعرض للأزمة الناجمة عن دين متدن، وهذا لا يعني أن دينا مرتفعا ليس سيئا بالنسبة للنمو والرفاه".
ويجد الباحثون أن "النقطة الرئيسة هنا هي أن ثمن الرفاه نتيجة لدين عال، أو ما يطلق عليه (عبء الدين) هو الذي تم تحمله، ولا يمكن في هذه الحالة استعادته، فهو ثمن ضائع، وأمام خيار العيش مع نسبة دين مرتفع، أو استخدام فائض الميزانية لتخفيض الدين العام، فإن الحكومات التي تملك مدى واسعا من الميزانية يمكنها أن تعيش مع دين مرتفع".
ويلفت التقرير إلى أن "سياسة التقشف لا تؤدي فقط إلى توليد كلفة عالية للرفاه بسبب قنوات التزويد، لكنها تضر أيضا بالطلب، ولهذا تزيد مستويات التوظيف والبطالة سوءا، وقد دافع عدد من الباحثين، من مثل الباحث في هارفارد ألبرتو أليسينا عن فكرة توسيع مدى تقوية الميزانية، عبر زيادة الناتج والتوظيف، ودافع عنها مدير البنك المركزي الأوروبي السابق جين كلود تريشيت".
وتذكر المجلة أنه من خلال التجربة ظهر أن حالات تقوية الميزانية تبعها انخفاض لا توسيع في الناتج وفي المعدل العام، حيث تقوي الدخل القومي العام بنسبة 1%، تتبعها زيادة في معدلات البطالة بنسبة 0.6%.
ويتوصل الباحثون إلى أن المنافع التي تقدمها بعض سياسات الليبيرالية الجديدة تبدو مبالغا بها، وفي حالة الانفتاح، فإنه يحصل تدفق في المال الأجنبي، ويقدم بعض المنافع، مستدركين بأن إن المخاطر تزداد، وفي حالة تقوية الميزانية العامة فقد تم تجاهل الكلفة قصيرة المدى المتعلقة بالإنتاج المنخفض والرفاه والمستوى العالي من البطالة.
ويرى الكتاب أن "عدم المساواة الناجمة عن التقشف والانفتاح قد يؤثر في النمو الذي تحاول أجندة الليبرالية الجديدة تقويته، حيث هناك أدلة اليوم تشير إلى أن عدم المساواة قد يؤدي إلى انخفاض مدى استمرارية ومستوى النمو، ومن هنا فإن الضرر الذي ينجم عن عدم المساواة يدعو صناع السياسة لأن يكونوا أكثر انفتاحا فيما يتعلق بإعادة التوزيع، وسياسات تؤدي إلى تخفيف الآثار، من خلال زيادة النفقات أو التعليم والتدريب، التي توسع فرص المساواة، بالإضافة إلى أن استراتيجيات تقوية الميزانية يتم تصميمها لتخفيف آثار سياسات التوزيع على أصحاب الدخل المنخفض، وفي بعض الحالات قد تضطر الحكومة للتصدي للآثار غير المرغوبة من إعادة التوزيع، من خلال فرض ضرائب وزيادة الإنفاق لإعادة توزيع الدخل، ومن حسن الحظ أن المخاوف من أثر هذه السياسات على النمو لا أساس لها".
ويدعو الكتاب، وكلهم باحثون في قسم الأبحاث في صندوق النقد الدولي، إلى نظرة أكثر تفحصا لما يمكن لأجندة الليبرالية الجديدة تحقيقه، ويقولون إن صندوق النقد الدولي يقف في مقدمة هذه الجهود، ويشيرون إلى التجربة التشيلية التي تم الاحتفاء بها في نهاية القرن الماضي، وغير عدد من الاقتصاديين النظرة لها اليوم، والاتفاق مع الاقتصادي في جامعة كولومبيا جوزيف ستغليتز من أن التشيلي هي "مثال نجاح يقوم على الجمع بين الأسواق بتنظيمات مناسبة".
وينوه التقرير إلى أن ستغليتز لاحظ أن التشيلي في السنوات الأولى للتحول نحو الليبرالية تحركت وفرضت "تحكما" على تدفق رأس المال؛ حتى لا "يثقل" أو يغمر، كما حدث في الأزمة المالية الأولى الآسيوية في تايلاند.
وتختم "فايننس أند ديفلوبمنت" تقريرها بالإشارة إلى أن تجربة التشيلي تشير إلى أنه لا يوجد هناك نتيجة واحدة ثابتة للدول كلها وفي الأوقات كلها، لافتة إلى أنه يجب في هذه الحالة على صناع السياسة وصندوق النقد الدولي تقديم النصح لها، ليس بناء على الثقة، لكن بناء على الأدلة التي أثبتت نجاعتها.