لا أعرف عنك شيئا سوى أنك كنت الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والمرء -كما تعلم- لا يرتفع بمنصبه، وكم من منصب رفيع كان خافضا لصاحبه، وإنما يُقدِّس المرءَ عملُه لا انتماؤه السياسي، ثم إنني أعلم أنك سجين مظلوم من بين عشرات آلاف السجناء الذين وقع عليهم من الأهوال ما لو طرأ خيال منها على عقل أحد؛ لاجتثَّ ذلك الخيالُ العقلَ من رأس صاحبه، ويكفي أن نتذكر ضحايا سيارة الترحيلات الذين قُتلوا اختناقا وحرقا، وما عاد أحد يتذكرهم اليوم، وبالرغم من أن عموم المحنة قد يكفّ عن الفرد وساوس السؤال الحارق "لماذا أنا من دون الناس يا رب؟!"، فإنني لا أدري إن كنتَ رأيتَ شيئا من تلك الأهوال، أم كنت ممن خُفِّف عنهم البلاء بالقياس إلى غيرهم.
ولكني أعلم أنني شاهدتك في مقام عزيز عسير، وهو كذلك إلا لمن هيأه الله له وسهله عليه، وما علمي بامتناع هذا المقام، إلا عن خبرة، وعن مقابلة بين أحوال عايشتها ورأيتها، وبين حالك الذي رأيته وإن لم أعايشه، وكان يكفيني لرؤية المقام الذي أنزلك الله فيه، نظراتك المحيّرة، إلا لمن عرف الموقف، فعرف ما بها، وابتسامتك المستحيلة، ولكنها مفهومة لمن أحاطت به سجون الظالمين ومحاكمهم في يوم ما، فقد تكثّف في انفعالاتك كلها التمرد والرضا والحنو، ومثّلت تلك الانفعالات الحدّ الفاصل ما بين الرضا عن الله وبأقداره وبين الخنوع للظالمين والانهيار تحت جبروتهم، فكنت راضيا عن الله، صابرا في أقداره، متمردا على ما أنت فيه، متعاليا على قهر العبيد، أو هكذا أوحت انفعالاتك لمن خبر الموقف، ولكنك يقينا كنت حانيا، وهذه هي القصة كلها، قصة الحنو.
يا أخي! لو تعلم كم تساءلت ماذا تفعل السجون بالنّاس، وأنا أرقب لسنوات الجذور العميقة للحزن الطافي في عيون السجناء الغائرة، وأتأمل الخطوات الثقيلة التي تقلّ ظهورا تزيد سنوات السجن انحناءها كل يوم، والانفعالات المرتبكة فيما يسميه السجناء الفلسطينيون "قفص الزيارة"، واللحظات المتوترة حين التقائهم بأهاليهم، وزجاج ثقيل يفصل بينهم، وسماعة هاتفية وسيلتهم الوحيدة في الزيارة لسماع أصواتهم 45 دقيقة كل أسبوعين، أو مرة في الشهر، أو مرة في العمر، أو ولا مرة!
ثم لك أن تتخيل طقس الزيارة من لحظة الاستعداد لها وصولا إلى الفاصل الزجاجي، ومن لحظة استعداد الأهالي للزيارة مرورا بالعذاب كله وصولا لأبنائهم، ولكنّي تساءلت أكثر عن السرّ المودع في بعضهم، ممن يمتزج حزنهم الطافي على صفحات عيونهم بتمردهم الظاهر، وممن تستقيم أرواحهم بالرغم من ظهورهم المنحنية بثقل السنوات وبأس "الأبراش"، وممن يتدفق من تضاعيف وجوههم الحنو في لحظات الارتباك خلف القفص الزجاجي.. قد رأيت يا أخي مقاما من درجات، تجد بعضهم في الذروة منه دائما، وتسأل بأي شيء بلغوه.
في اعتقالي الأول رأيت واحدا منهم في زنازين التحقيق، وهو يستعد لعدد من المؤبدات، بدا لي من أولي البأس الشديد، وودت لو اتخذته لي أخا كبيرا، ولعلك تعلم ماذا يفعل اليُتم في الصغر بذلك الذي يشيخ وهو يبحث عن أبيه أو عن أخيه الكبير، ثم لما سألته مرة، وقد كان لا يبدو الحزن طافيا على صفحات عينيه، عن سرّ امتناع عينيه على الحزن، فقال لي "يا ساري، أنت لا تشاهد دموعي وأنا أدفن رأسي تحت البطانية أذكر زوجتي وأبنائي"، بعدها كنت أشاهد الحزن عميق الجذور في عينه كل لحظة، التقيته بعد عشر سنوات مرة أخرى في السجن، والحزن ذاته في عينيه.. بعد عشر سنوات قلت في نفسي "حتى وإن لم يتذكرني، فبأي وجه ألقاه؟!"
أن تكون وحدك، أو تظل وحدك، من أصناف الابتلاء الأشدّ، وقد ظللتُ مرة في "المعبار" بعدما نقلوا كل المعتقلين في "الحملة" إلى السجن، وظلّ معي اثنان، أحدهما كان باسما ضاحكا سعيدا بخلاص إخوانه من "المعبار" رغم أنه لم يلحق بهم، فعجبتُ لهذه الروح النادرة في عالم السجون، وأما الثاني –وكان أقربهما إليّ- فقال لي: "أنت حزين لأنك تأخرت عنهم، أليس كذلك؟ وأنت تظنني من غير اللحم والدم، لأنه لا يبدو في وجهي مثل حزنك، أليس كذلك؟!" ثم قصّ علي واحدة من تجاربه في التحقيق القاسي، جعلتني أخجل من نفسي، وأعرف معنى المغالبة المضطرمة في صدور الكبار!
ورأيت بعضهم يا أخي لا يقدرون على ذلك، في درجات دون الذروة، يغلبهم الضعف ساعة الضيق، ولكن لا تغلبهم ذكرى السجن ساعة السعة، فيعودون سيرتهم الأولى، وتستقيم أرواحهم، ثم لك أن تسأل "أيّ شيء يحملهم على ذلك؟!"، ولو سألت أحدهم، ربما لما استطاع الإجابة، لأن ما يحمله إحساس لا يمكن تعقّله، ومحاولة تعقّله فلسفة تأخذ من أصالته وبهائه، وتجسيده في اللغة تشويه له.. إنه أمر فوق العقل، وفوق اللغة، حتى وإن كان درجة دون الذروة في المقام العزيز.
لكن الأصعب يا أخي، أن تلقى الأهوال عند غير عدوّك الأصيل، ثم لا تجد عند صاحب السحنة السمراء، واللغة العربية بلكنتك المعروفة، وهو يهوي عليك بالعصا، أو يعلقك في السقف، أو يغلق عليك باب الزنزانة، إلّا ولا ذمة، ولا حفظا للجوار، ولا وفاء للذمار، ولا طلبا للسلامة من الأوزار، ثم تطوي على ذلك كله في زنزانتك، تذكر احتراق زوجك بدموعها، وصدر أمك بزفراتها، والخيبة المقيمة في بيتك بخذلان القريب، وشماتة البعيد، فكيف إذا قضيت سنوات والحال كذلك، وكنت فريدا في حالك، بل وحيدا فيما أنت فيه، أيّ قوة تعينك على نفسك إذا اتفق معها شيطانها، وألحّت عليك بالسؤال "لماذا أنا؟!"
أنا فقط أبثّ أمرا من صدر محزون، إلى آخر يعلم حقيقة المبثوث، وأقول لك إنني لم أتشرف بهذا المقام، رغم أنني عشت الموقف نفسه مرات عديدة، لكني أعلم ما المرأة في حياتك، أعلم كلما نظرت في وجه أمي أو وجه زوجي، وأعلم أنني لو حزت لهما الدنيا، لما كانت شيئا في موقف واحد من مواقف عذابهما.. هل تعلم أن أصحاب السحنة السمراء واللهجة الفلسطينية، سبّوهما وشتموا عرضهما وطردوهما من محكمتي؟! ليس مهما كيف حُكمت أو ماذا حُكمت.. يكفي الذي جرى لهما!
ما أشد قدرة الإنسان على الإبداع في الأذى! كلما قال المرء لا شيء فوق هذا العذاب، وجد أن الإنسان الظلوم الجهول، قادر على الإتيان بما استعصى على الخيال، وفي كل مستوى من العذاب تجد من خلق الله من يتحقق لهم هذا المقام مجددا، وكأنهم ما خلقوا إلا ليأخذوا من قسوة الحياة ويعطوها من لطفهم، ولكن كيف يَدفن أمثال هؤلاء كلّ أحزانهم وأوجاعهم وأثقالهم في زنازينهم ومهاجعهم، ويلقون أهلهم بكل هذا الودّ والحنو؟! كيف لا يثقلون أهلهم بشكواهم، ولا يحملونهم شيئا من أوجاعهم؟! كيف يُقبلون على أهلهم خفافا سراعا، ثم يُرجعون أهلهم خفافا سراعا؟! وكيف تتحقق فيهم آية الله "السكن، والمودة والرحمة" في مثل هذا الموقف العصيب؟! إنه والله لمقام لا يعرفه إلا من عانى الموقف، سواء بلغ المقام أو ظلّ دونه، بل لا يعرفه عين اليقين إلا من ظلّ دونه، فعرف بالمقابلة والمقارنة.. و "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".