هل تعلمون أن بعض الأحداث التاريخية الكبرى تعتمد فقط على تصرف فردي؟ بعبارة أخرى، يكفي أن يكون هناك قائد متسرع ليتسبب بكوارث كبرى لبلاده يدونها التاريخ. ويذكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر أنه حين التقى بوزير الخارجية العراقي الراحل طارق عزيز في جنيف بعد الغزو العراقي للكويت، كانت رجلا بيكر ترتجفان تحت الطاولة بشدة وهو يبحث مع عزير خروج القوات العراقية من الكويت. لقد كان الأمريكيون يدعون إلى الله ليل نهار أن يركب النظام العراقي رأسه، ويرفض الانسحاب من الكويت؛ كي ينفذ الأمريكيون مؤامراتهم الرهيبة بحق العراق ونظامه.
ويذكر بيكر أنه عاش أصعب لحظات القلق وهو يجلس مقابل طارق عزيز على الطرف الآخر من الطاولة خوفا من أن يوافق عزيز على الانسحاب من الكويت، لكن، وبناء على تعليمات القيادة العراقية، أخبر عزيز جيمس بيكر بأن الجيش العراقي لن ينسحب من الكويت. وفي تلك اللحظات، يقول بيكر، إن الدم عاد إلى شرايينه من جديد، وتوقفت رجلاه عن الاهتزاز الشديد فور سماعه الرد العراقي.
بعبارة أخرى، فإن المخطط الأمريكي المعد للعراق كان يتوقف على العناد العراقي، فلو قال طارق عزيز لبيكر مثلا إن الجيش العراقي سينسحب من الكويت، لما جمعت أمريكا وقتها أكثر من ثلاثين دولة لطرد القوات العراقية من الكويت، ولتبدأ بعد ذلك بتنفيذ مخططها الشيطاني بضرب العراق لاحقا وإعادته إلى العصر الحجري كما توعد وزير الدفاع الأمريكي وقتها دونالد رامسفيلد. ولم يكن بمقدورها أن تعيد ترتيب أوراق المنطقة بأكملها.
وكذلك الأمر في الحالة السورية. فلو أن نظام الأسد تعامل مع المظاهرات الشعبية، أو ما يسميه بالمؤامرة الكونية بروية وحكمة بدل إنزال الجيش إلى الشوارع خلال أسابيع، لما وصلت أوضاع سوريا إلى هذا، ولكان قد خيّب آمال أعداء سوريا كإسرائيل وأمثالها وكل الذين كانوا يتآمرون على سوريا. فالقائد الحكيم هو الذي يستنفد كل الوسائل الذكية قبل أن يستخدم القوة الوحشية، فلطالما كانت الوسائل الدبلوماسية الحكيمة أفضل بمئات المرات تاريخيا من الحديد والنار في معالجة الأزمات الكبرى.
ولو كان حافظ الأسد مكان ابنه لربما تصرف بطريقة مغايرة تماما، فالرئيس الحكيم هو من يحني رأسه للرياح العاتية بدل مواجهتها. وكلنا يتذكر كيف تعامل حافظ الأسد مع التهديدات التركية عام 1999 عندما هدده رئيس الوزراء التركي مسعود يلمز وقتها بقلع عينيه وتكسير يديه واجتياح دمشق إذا لم يسلّم الزعيم الكردي عبد الله أوجلان خلال أربع وعشرين ساعة لتركيا. وبدل أن يورط حافظ الأسد سوريا في حرب خطيرة مع الأتراك وقتها، قام بتسفير أوجلان خارج سوريا، لتعتقله الاستخبارات التركية فورا في عملية مخابراتية ناجحة. لقد جنب حافظ الأسد سوريا حربا بغنى عنها.
على العكس من ذلك، لعبت إيران وروسيا وبعض كبار ضباط الجيش والأمن في سوريا بعقل بشار الأسد في بداية الثورة، وبدل أن ينجح الفريق الوطني الحكيم في النظام بإقناع الرئيس بالتعامل بحكمة مع الثورة أو ما يسميه بالمؤامرة، نجح فريق الصقور العميل لجهات خارجية بدفعه إلى المحرقة.
ويعتقد بعض العارفين ببواطن الأمور أن فريق الصقور الذي لعب بعقل بشار أراد أن يورطه، ويحقق في الآن ذاته أهداف بعض القوى الخارجية في سوريا. ويعتقد البعض أن الفريق الذي عمل على تأجيج الوضع في البلاد في بداية الثورة مرتبط بجهات خارجية، ويعمل بوظيفة عميل حقيقي ضد مصالح سوريا وشعبها. ويرى آخرون أن النظام السوري مُخترق حتى العظم، وأن الذين ورطوا الأسد من داخل النظام هم ألد أعدائه. ومن غير المستبعد أن يستلموا السلطة لاحقا في سوريا فيما لو تمت إزاحة الأسد.
بعبارة أخرى، فإن الشخصيات التي يمكن أن تحل محل الأسد وبطانته لاحقا ستحصل على جائزتها من القوى التي تعمل لصالحها في الخارج. والجائزة طبعا استلام السلطة في سوريا بدل الأسد. ولو كنت مكان بشار الأسد لشنقت أي مسؤول سوري يطرح الخارج اسمه بديلا عن بشار، لأنه ما كان ليحلم بطرح اسمه بديلا للأسد لولا أنه قدم خدمات جليلة لأسياده في الخارج على حساب النظام وسوريا معا.
لا شك أن بشار الأسد سليل حافظ الأسد في الوحشية والهمجية، لكن هل كان حافظ الأسد ليتصرف بالطريقة التي تصرف بها ابنه الطائش بشار في مواجهة الثورة السورية وتوريط سوريا في كارثة كبرى وجعلها مجرد ألعوبة في يد "اللي بيسوى وما يسواش"؟ هل كان ليسمح لنفسه ونظامه بأن يكون طرطورا في أيدي الإيرانيين والروس؟ هل كان ليقبل أن يكون أداة في أيدي كبار جنرالات الأمن والجيش الذين لعبوا بعقل بشار وورطوه وورطوا وطنا كان اسمه سوريا في لعبة أكبر منهم بكثير؟ بالطبع لا. حتى أقرب المقربين من الرئيس السوري يقولون بعيدا عن الأضواء إن هذا الأحمق أدخلنا، وأدخل سوريا في الحيط.
إن أفضل مثل شعبي ينطبق على ما فعله الأسد الصغير بسوريا هو المثل القائل: "مجنون رمى حجر في بئر، مئة ألف عاقل لا يستطيعون إخراجه". كم من الأحداث التاريخية الكبرى تسبب بها أحداث بتصرفاتهم الصبيانية الرعناء!
عن صحيفة الشرق القطرية