اتفقت كلمة من كانوا حول حسن البنا في سنواته وأيامه الأخيرة، والمقربين منه، أنه كان يجري مراجعة شاملة حول أداء جماعة الإخوان المسلمين السياسي، بعد أن وضع يده - ووضع محبوه كذلك يدهم معه - على الأخطاء التي ارتكبتها الجماعة في طريقة دخولها العمل السياسي، فقد أصابت وأخطأت، ولذا كان واجبا عليه المراجعة. وهو ما نقله عنه الشيخ الغزالي أن حسن البنا في أخريات حياته قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات). يريد بذلك أنه يتمنى أن يعود بالجماعة إلى أيام والتربية التي ينبغي أن تسبق العمل السياسي المباشر، وتصاحبه كذلك.
وهو نفس ما نقله كريم ثابت الذي كان مستشارا إعلاميا للملك فاروق، وذلك بعد صدور قرار بحل جماعة الإخوان، وكانت شهادته ضمن مذكراته التي نشرها في جريدة الجمهورية المصرية سنة 1955م، وقد رجعت إلى مذكراته المنشورة في جزئين، بعنوان: (عشر سنوات مع فاروق) و(فاروق كما عرفته) فلم أجد هذه الحلقة موجودة على أهميتها، ودلالتها في التاريخ السياسي للإخوان المسلمين، فقد طلب حسن البنا من كريم ثابت الوساطة لدى الملك في هذا الأمر السياسي، لما له من مكانة لدى الملك، ولأنه رجل مسيحي وهو ما ينفي عنه الشكوك في التوسط لجماعة إسلامية لدى الملك، يقول كريم ثابت:
(اتصل بي الأستاذ مصطفى أمين أحد صاحبي دار (أخبار اليوم) في ذات يوم ـ وكنا في منتصف شهر ديسمبر سنة 1948م ـ وقال لي: إنه رتب اجتماعا بيني وبين الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين في مساء الغد.
وفي الساعة السابعة من مساء اليوم التالي التقيت بالشيخ حسن البنا عند مصطفى أمين في داره بالروضة وكانت هذه أول مرة أجتمع فيها بالمرشد العام للإخوان المسلمين.
وكان النقراشي قد أصدر أمره العسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وفروعها بالأقاليم، ومصادرة أموالها، وأخذ في تنفيذ التدابير التي يقتضيها هذه الإجراءات، وامتدت موجة الاعتقالات بين المنتمين إلى الجماعة.
وطفق الشيخ حسن يحدثني عن قسوة تلك التدابير واتساع نطاقها، وأفاض الشكوى منها.
ثم استطرد يقول: إن انحراف الإخوان المسلمين إلى الاشتغال بالسياسة كان خطأ كبيرا، وإنه كان أحرى بهم أن يتجنبوها، وأن يصونوا أنفسهم عن الانزلاق في معمعانها، وأن يقصروا رسالتهم على خدمة الدين، ويصرفوا جهودهم في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والهداية إلى آداب الإسلام، وهو الأصل في تكوين الجماعة)، وذهب كريم ثابت للقاء الملك فاروق فوجده يحمل لوحة تقويم يومي، وقال له: يا كريم، ألا تريد أن تعرف من ملك مصر القادم؟ فقال له: أطال الله عمرك يا جلالة الملك، فقال له فاروق: انظر، هذا هو ملك مصر القادم، ووجد هذه اللوحة عليها صورة حسن البنا ممهورا تحتها بملك مصر، وقد كانت أداة للوقيعة بين الدولة والإخوان، فلم يستطع كريم ثابت طرح الموضوع، أو الوساطة لدى الملك.
وقد كان حسن البنا يرى أخطاء هذا التوجه بالانغماس في السياسة دون إعداد لها، من قبل هذا التاريخ، ففي عام 1946م التقى بالأستاذ فريد عبد الخالق عضو مكتب الإرشاد، ثم التقى بعده بمكتب الإرشاد وناقشوا ما يلي: نحن جماعة تؤمن بالإسلام الشامل، ومن شمول الإسلام: الاشتغال بالسياسة، فهل شمول الإسلام يعني شمول الجماعة؟ وبخاصة المجال السياسي الذي تحتاج الجماعة إلى الاستعداد إليه استعدادا قويا، فطرح حسن البنا طرحين مهمين، أولهما: فكرة البحث عن حزب يتجه بأفكاره قريبا من أفكار الإخوان، لكن لا شعبية له، ويكون الإخوان الظهير الشعبي له، ووقع اختيارهم على (الحزب الوطني) الذي كان مسؤوله وقتها الأستاذ فتحي رضوان، وقد أسسه الزعيم مصطفى كامل، بحيث يعبر الحزب عن المواقف السياسية للإخوان، وقد فاتح حسن البنا فتحي رضوان في ذلك، وكادا يتفاهما عليه، أو لقي ترحيبا من حيث المبدأ.
وأما التفكير الثاني، فهو فكرة (الفيبيانز) وهي فكرة نشأت في القرن التاسع عشر في بريطانيا، وتحولت فيما بعد لحزب سياسي، وهي أن يترك الأفراد تختار ما تشاء من أحزاب سياسية تمثل فكر كل مجموعة من الشباب في الجماعة، بحيث يتواجد كوادر الإخوان الشابة التي تربت على الإسلام خلقا وشريعة، في كل هذه الأحزاب، فيكون لوجودهم أثر خلقي مهم في الحياة الحزبية، ويستفيد الشباب أن يتكونوا تكوينا سياسيا حزبيا متدرجا، وفي كلتا الحالتين تستفيد الجماعة ويستفيد العمل السياسي الحزبي في مصر.
وقد أعاد البنا هذا الطرح على فريد عبد الخالق قبل وفاته بأيام، وقد كانا يتمشيان على كوبري قصر النيل، وقال له: دبرني يا فريد اعمل ايه، والخناق يضيق علينا، ودخولنا العمل السياسي بهذا الشكل جلب علينا مشكلات كبيرة لم تكن في الحسبان، ثم طلب منه دراسة الحالة الحزبية في بريطانيا للاستفادة منها، ومحاولة الخروج من هذا النفق بإجراء قانوني وعملي يحفظ على الجماعة قوتها وكوادرها، ولكن كان قدر الله شيئا آخر، فاغتيل بعدها بأيام حسن البنا رحمه الله.
Essamt74@hotmail.com