عندما ترى شاشات الفضائيات المصرية الحكومية والخاصة تنشر في برامجها طوال اليوم أخبار الفن والرياضة والطبخ وأحوال الطقس، بينما الشارع يموج باحتجاجات شعبية في يوم "جمعة الأرض" ووكالات الأنباء العالمية تنشر تقاريرها عن احتجاج الآلاف في شوارع القاهرة، فسوف تدرك دون عناء أن التوتر بلغ أقصاه في أعلى هرم السلطة وأجهزتها ومؤسساتها، كما أن هذه الحالة المرتبكة تذكرك بأيام ثورة يناير الأولى، عندما كانت شاشة التليفزيون الرسمي شبه مثبتة على منظر النيل البديع وهدوئه وجماله، بينما على بعد خطوات من ماسبيرو يحتشد نصف مليون مواطن يهتفون ضد مبارك ويرفعون اللافتة الشهيرة: ارحل.
المظاهرات التي حدثت اليوم، وما زالت مستمرة حتى كتابة هذه السطور، ليست بضخامة احتجاجات يناير 2011، هذا صحيح، ولكنها مؤشر لا تخطئه أعين المختصين، في علوم السياسة أو الأمن أو الاجتماع، على أنها بداية حراك شعبي واسع أعلن عن مولده، وأنه سيجرف في الطريق المزيد من المتعاطفين وصولا إلى نقطة لا يعرف إلا الله مداها الآن، كما أن الآلاف التي خرجت اليوم في أنحاء عديدة من مصر، في القاهرة والاسكندرية والمنصورة وغيرها من المدن، مثلت كسرا لحاجز الخوف الذي عملت الدولة على صناعته طوال ثلاث سنوات تقريبا منذ 3 يوليو، بفعل ممارسات عنيفة ودموية للغاية من الجهاز الأمني، إضافة إلى إجراءات قانونية شديدة القسوة زجت بالآلاف خلف أسوار السجون بتهم التظاهر أو الإخلال بالأمن أو تهديد السلام الاجتماعي أو غير ذلك من اتهامات، وهي إجراءات شكلت حاجزا رهيبا يحول دون التظاهر، ولكن الآلاف قرروا اليوم كسر هذا الحاجز غير عابئين بأي نتائج.
من الواضح أن هناك تحفظا من الجهاز الأمني في استخدام القوة المفرطة ضد الشباب المتظاهر، لا أحد في مصر الآن يريد أن يتحمل فاتورة باهظة في ظروف غامضة ومرحلة قلقة، كما أن التزام المتظاهرين بالسلمية الكاملة ساعد على هذا المظهر، والمؤكد أن ما جرى اليوم سيمثل حالة جذب وشحن كبيرة للمزيد من الاحتجاجات، خاصة بعد زوال مخاطر أن يقع صدام بين الإخوان والشرطة يكون ضحيته متظاهرون من القوى المدنية الأخرى، ويبدو أن الإخوان استوعبوا الدرس وأخذوا بنصيحة الآخرين، عندما تظاهروا في أماكن ومحاور مختلفة وبعيدة عن المناطق التي اعتادتها القوى المدنية، خاصة في وسط القاهرة.
مظاهرات "جمعة الأرض" حدث لافت بالفعل، وتحول جديد في الحالة السياسية المصرية، وتمثل نقلة جديدة وخطيرة في مسار 3 يوليو وتحديا خطيرا أيضا لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ لأنها المرة الأولى التي ترفع فيها لافتة "ارحل" في تلك المرحلة مثلما لاحظت وكالة رويترز في تقريرها، وتحمل مظاهرات اليوم دلالتين أساسيتين، الأولى أن ثورة يناير ما زالت حية ونابضة في ضمير هذا الجيل من المصريين، وأن مطالبها في الحرية والكرامة والعدالة، ما زالت تمثل المشروع السياسي الوحيد الذي يرضي هذا الجيل، وأن أي نظام سياسي يتجاهل هذا المشروع وتلك المعالم لا يملك فرصة للحياة. وأما الملاحظة الثانية التي تكشف عنها المظاهرات الجديدة فتتمثل في أن كل الهياكل المؤسسية التي تم بناؤها منذ 3 يوليو 2013 وحتى الآن، من حكومة وبرلمان ومنظومة تشريعية، فشلت فشلا ذريعا في ملء الفراغ السياسي، كما فشلت في أن تسحب "القرار" من الشارع. وبعد موجة القمع التي امتدت قرابة ثلاث سنوات وتجميد شبه كامل للحراك السياسي الثوري، ها هو الشارع يستعيد قراره ويستعيد شرعيته ويستعيد هيبته، ويتقدم ليملأ الفراغ، بينما البرلمان الذي تم إنجازه قبل حوالي ستة أشهر ما زال حتى الآن عاجزا عن أن يكمل "لائحته الداخلية" في مشهد تعجز الكوميديا السوداء عن محاكاته.
يوم "جمعة الأرض" فتح صفحة جديدة في الحياة السياسية في مصر، وأعتقد أن مراجع مهمة في الدولة وخارجها ستقرأ هذه الصفحة جيدا، والمؤكد أن مصر بعدها لن تكون أبدا قبلها.
عن صحيفة المصريون المصرية