قضايا وآراء

محنة التفكير (5)

1300x600
لا يخفى على المراقب الحصيف ملاحظة وجود تحالف غير مكتوب بين كل من تياري التغريب والخلجنة على مدار العقود الخمسة أو الستة الماضية، بدا ذلك واضحا في محاولة إبعاد الدين بالكلية عن المسرح السياسي أو تقليص فرص تواجده وتأثيره.

 فالدين عند هذا التحالف إما أن يكون قشريا محصورا في ممارسات لا علاقة لها بالحياة ولا بواقع الناس، وإما أن يكون (مؤمما) تقوم فئة واحدة بتمثيله والتعبير عنه واعتبار ما دون هذه الصيغة بعيدا عن الدين، وكلا الأمرين ساهم في حصار الدين وتهميشه في الواقع الحياتي المعاش للناس مما ساعد بصورة أو بأخرى على تفريغه من مضمونه. الأمر الذي نجم عنه التطرف في فهم الدين والتشدد في تطبيق بعض أحكامه من جانب فئة ليس لديها بضاعة لا في الفقه ولا في علوم الشريعة، كما نجم عن ذلك استخدام العنف عوضا عن الموعظة الحسنة.

كما أن هذا التحالف الذي يجمع بين المنادين بالحرية والمناهضين لها باعتبارها خروجا على ناموس الحكم والسلطة قد اتفقا اتفاقا ضمنيا غير مكتوب على مواجهة الربيع العربي وتحطيمه وكسر إرادة الشعوب العربية، بل قد سعى بعض رموز هذا الحلف المعادي للشعوب إلى تسفيه الربيع العربي وتسميته بالخريف العربي. 

لو اتفقنا من ناحية المبدأ على التحليل، واتفقنا أيضا على ضرورة الخروج من التيه، فقد تطرأ عدة أسئلة لعل أهمها هو حول طريقة الخروج من التيه لأننا لو اختلفنا حول طريقة الخروج فسوف ندفع كلفة عالية جدا ربما أضعاف ما قد ندفعه لو بقينا في التيه نائمين أو خاملين. 

أما عن طريق الخروج فأتصور أننا، وبعد عقود التشرذم والفرقة ومن بعدها عقود التيه العظيم، ربما نفطن إلى أهمية أن تعود الأمة لتكون كما كانت يوما ما على قلب رجل واحد، أو أقرب إلى ذلك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

صحيح أننا دخلنا التيه على شكل جماعات وفرق ومجموعات وتنظيمات، لكن خروجنا بعد عودة الوعي يجب أن يكون خروجا جماعيا موحدا، فقد أثبتت الممارسات السابقة أن الأقلية الحاكمة ليست جديرة بالاحترام، وليست أهلا للحكم، ولا يجب بعد كل هذه السنين الطوال أن تمكن مرة ثانية من رقاب العباد وثروات البلاد. 

إن إعادة التفاوض حول أهلية الحكام والأمراء المستبدين بحجة (اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش) هو دجل سياسي مدهون بدهن عود شرقي حرق على نار حطب البادية وتلا بعض رجال الدين الدجالين عليه بعض أذكارهم موحين لشعوبهم المسكينة بأن حكامهم خيار من خيار. لقد توافرت للسلطات الحاكمة في العالم العربي على مدار ما يزيد عن نصف قرن ما لم تتوفر لسلطة في العالم من ثروة لا تنضب وسلطة لا نهائية، ومع ذلك لم ينجزوا مشروعا تنمويا حضاريا يعبر عن الأمة، بل ربما مشاريع استثمارية تعبر عن فكر رأسمالي غربي لا أكثر ولا أقل. 

السؤال الثاني متعلق بالوجهة التي نرغب في الوصول إليها بعد خروجنا من التيه العظيم، فعلى سبيل المثال هل بعد هذا التيه يجب أن نعود إلى ما كنا عليه باعتبار أننا، والحمد لله، خرجنا وأفقنا من الغيبوبة وهذا انتصار في حد ذاته؟ أم أننا يجب أن نحدد نقطة أخرى تتجاوز واقعنا قبل دخولنا إلى التيه؟ وبكلام واضح وصريح هل سنعود إلى ميدان الثورة الشاملة حتى يتحقق للأمة مرادها؟ أم أننا سنحدد فقط نقطة التجميع "assembly Point" ثم يغادر بعضنا إلى أماكن أخرى وفق خطة جديدة لتفريقنا على أسس المحاصصة والتقسيم الجغرافي بحيث يشعر كل فريق بأنه خرج من التيه منتصرا وقد حقق أهدافه النوعية أو ما يراه استراتيجيا؟ يعني أنه من الممكن أن نخرج من التيه وفق تصور وإرادة من أرادنا الدخول فيه. 

ووفقا لهذا التصور سوف يصبح للشيعة العرب كيانهم الموحد، وللكرد وللسنة أيضا، وللعلويين والأزيديين وغيرهم في دول المنطقة، وهنا مرة أخرى لا ينطبق هذا النموذج على العراق وسوريا واليمن وليبيا فقط، بل إن المخطط المرسوم يقتضي إعادة تقسيم جزيرة العرب وتفتيتها، أما الدول المستعصية أو تلك التي قد لا تنطبق عليها شروط التفكيك مثل مصر فقد تتحول إلى دول فاشلة، متحدة في الظاهر، ولكنها عبارة عن جزر منعزلة لا يحكمها إطار جامع، ولا يوجد فيها ما يعرف بالدولة المركزية بل سلطات مختلفة تتعايش مع بعضها في إطار جغرافي لا علاقة له بالعالم سوى بتلقي المساعدات أو تصدير المليشيات. 

لو تصورنا الخروج عبر بوابة الثورة مجتمعين فإن كلفة الخروج ستكون أقل بكثير من الخروج عبر الأنفاق سابقة التجهيز. 

فلماذا تعتبر بوابة الثورة هي الملاذ الأخير للأمة على غير ما قد يعتقده البعض من أن الثورة تعني الفوضى؟ 

ثم السؤال المهم في هذا السياق يمكن تلخيصه في ما هو نوع القيادة التي تنتظرها الأمة لقيادة عملية الخروج من التيه إلى ميدان الثورة؟