أما وقد شيعت الجنائز، وبات الموتى بين يدي الله يحاسبهم بعدله، يبقى من مات كشخص عند ربه، ويبقى لنا التوقف أمام تاريخ ومواقف من يقضي نحبه، للدراسة والتحليل، وخاصة إذا كان ملء السمع البصر، مثل الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، والدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة.
ولسنا في حاجة للتعريف بالرجلين، فقد شبعا شهرة ونفوذا واحتفاء وثراء، جزاء ما قاما به من أعمال وكتابات، خدمة لنظم حكم قاهرة لشعوبها، ومخاصمة لدينها، ومحاربة لمن يحملون فكرته ومشروعه.. أنظمة حكم علمانية متطرفة، لكنها تتشح بديكورالدين رفعا للعتب، وأنظمة حكم وجدت في المشروع الإسلامي النابع من تراب الوطن العدو الأخطر، ووجدت حامليه أخطر على الشعوب من تجار المخدرات، ومن الجواسيس بين ثنايا البلاد.
وبالتبعية لأنظمة الحكم التي يخدمان عليها؛ كان الرجلان ترسا - غير مباشر - في فلك النظام العالمي بمشروعه الاستعماري الكبير الذي يستهدف قبل كل شيء؛ اقتلاع الإسلام من بلادنا، وإبادة أي مكونات تدعو إليه أو تدافع عنه، ولا يسمح لنظام حكم أن يتربع دون الالتزام بحراسة مشروعه، والعمل على وأد أي نبتة إسلامية.
هما إذا من مدرسة مخاصمة الإسلام ومشروعه الحضاري، تلك المدرسة التي جمعت أسماء شتى بين محمد وبطرس وعبدالفتاح وجرجس وأحمد وإيليا وعلي وتواضروس.. هي مدرسة ولودة وولادة، يتعاقب الأجيال فيها جيلا بعد جيل، وجمعت بين جنباتها أجيالا من الساسة والأدباء والاقتصاديين وأهل الفن، منذ المعلم يعقوب، مرورا بكل الأعلام الذين كانت مهمتهم الدعاية لأنظمة قمعية تتعامل مع الشعوب معاملة العبيد في بلاط السادة!
محمد حسنين هيكل، رجل من الطراز الأول بلا منازع على صعيد الحرفة والمهنة، ولكن لم يذكر للرجل مرة واحدة أن دافع عن حرية مهنته (الصحافة)، أو وقفَ معارضا لحاكم انتهك حرية الرأي أو حقوق الإنسان، ولم تذكر له كلمات حقيقية تدعو لتحرر الشعوب، بل بالعكس؛ كان بوقا ساحرا لطواغيت العصر ومصاصي الدماء، فقد كان الذراع الإعلامي الأقوى لعبد الناصر، وهو يضع مصر خلف القضبان، ويجرد حملات إبادة وحشية ضد حقوق الأنسان، وخاصة ضد أصحاب المشروع الإسلامي وقادته، وهم الإخوان المسلمون، ولم يكن بعيدا عن ذلك كما ادعى.
وقد كشف الرجل عن وجهه المحارب للإسلام وللتوجه الإسلامي ولتحرير الشعب المصري من ربقة الاستبداد، عندما قاد بنفسه أشرس حملة سياسية وإعلامية لإسقاط الرئيس الشرعي المنتخب د. محمد مرسي، بانقلاب عسكري، شارك في التخطيط له ودعمه، وظل يؤيده حتى الرمق الأخير من حياته، لا لشيء إلا لأن الرئيس جاء من بين أصحاب المشروع الإسلامي.
فمنذ اندلاع ثورة 25 عام 2011م، وحين بدا في الأفق الإقبال الجماهيري الهادر على انتخاب الإسلاميين في كل الاستحاقات التي أجراها المجلس العسكري (خمسة استحقاقات)؛ وقف هيكل بالمرصاد لاقتراب أي إسلامي من سدة الحكم، أو بالأحرى اقتراب الإسلام من سدة الحكم، وقال قولته المشهورة لقناة الحياة قبيل جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية: "لا أوافق على حكم الإخوان لمصر، ولا حكم إسلامي لمصر، حتى ولو كان عبدالمنعم أبو الفتوح"!
أزعم أنني أقرأ وأتابع كتابات هيكل منذ كنت طالبا في نهاية المرحلة الابتدائية، وكنت أحفظ مقالاته الأسبوعية "بصراحة"، كما أتابع حواراته بصورة شبه منتظمة، وأعتقد جازما أن الرجل عبر هذا التاريخ الطويل؛ لم ينصف الفكرة الإسلامية بكلمة واحدة، ولم يتحدث عن التيار الإسلامي في أي مرة إلا باستخفاف، وإنْ أنصف مرة فسرعان ما يمحوها، وفي المقابل لا أذكر أن "هيكل" وجّه نقدا حقيقيا ومنصفا لسياسات أي دكتاتور في المنطقة!
أذكر أنني زرته في بيته عام 1993م ضمن وفد صحفي، ودار يومها حوار عن حرية الصحافة وحرية تشكيل الاحزاب، وتطرق الأستاذ صلاح عبدالمقصود، وزير الإعلام في حكومة الرئيس مرسي، لحق الاخوان في إنشاء حزب سياسي، فعارض هيكل بشدة، وبشّر بأن تجربة الأحزاب الإسلامية في البلاد العربية ستنتهي. وعندما جادلته في ذلك؛ غضب، لكنه ظل طوال الجلسة بين الحين والآخر يؤكد على أنه ليس ضد الإسلام، مدللا على ذلك بأن جده كان يصطحبه صغيرا إلى مسجد الحسين، وربما كان هذا هو السبب الذي جعله يوصي بالصلاة على جثمانه في مسجد الحسين رضي الله عنه!
أما د."بطرس" غالي؛ فلا يختلف في قناعاته عن "هيكل"، لكن يضاف إلى ذلك - كونه خصما لدودا للإسلام بالنشأة - حبه ووفاؤه لمشروع كنيسته.. نعم لقد وضع الرجل اسم مصر بين الدول التي تبوأت رئاسة الأمم المتحدة، ولكن ماذا قدم لمصر بهذا المكان وبتلك المكانة؟.. لقد كان كسابقيه، وخلفه في المنظمة الدولية؛ موظف لدى النظام الدولي؛ يبصم على ما يريده الكبار.
بعد توليه أمانة الأمم المتحدة عام 1992م، قاست البوسنة والهرسك المسلمة أبشع مجازر تطهير عرقي في القرن العشرين على يد الصرب الأرثوذكس، وقد علم "بطرس" بتلك المجازر، لكنه صمت عنها، وأذكر أنني زرت البوسنة في بداية تلك المجازر لتغطية الأحداث، وخلال زيارتي لإحدى المستشفيات التي كانت تغص بالجرحى في مدينة "توزلا"؛ فوجئت بإحدى المصابات تقول لي: إن رجلا من بلادكم اسمه بطرس غالي يرأس الأمم المتحدة هو من يشجع على قتلنا!
وبينما كان يستعد للترشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة؛ كنت أقوم بحملة صحفية على صفحات جريدة الشعب، كبرى صحف المعارضة المصرية في ذلك الوقت، كشفت خلالها عمليات تصدير نظام مبارك للطوب ومواد البناء سرا لبناء المستوطنات الصهيونية.. يومها سألته عن رأيه في ذلك؛ ففاجأني قائلا: ولم لا.. نحن نعطيهم بترولا وهو أهم من الطوب، ثم لماذا تسألني هذه الأسئلة المحرجة وأنا مقبل على موقع الأمين العام للأمم المتحدة؟!
"بطرس" كـ"هيكل".. من "مدرسة" واحدة، كلاهما أيد الانقلاب العسكري الدموي على الرئيس مرسي، وإن كان "هيكل" هو المهندس الأكبر لذلك الانقلاب، وظل ينافح عنه حتى الرمق الأخير، إلا أن "بطرس" أعلن صراحة في حوارات تلفزيونية مسجلة ضرورة إبادة الإخوان المسلمين مهما كان الأمر، حتى تتخلص مصر من الخطر، في رأيه.
رحل الرجلان.. وبقي المنهج، وما زالت المدرسة مفتوحة على مصراعيها لتخريج ورعاية المزيد من "هيكل" و"بطرس" وما شابههما... يحيطهم بريق الدعاية، وبرق الكلمات، وهالة القداسة... حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.