ساهم التدخل الروسي العسكري، عبر الغارات الجوية المكثيفة، بتسهيل تقدم النظام السوري وحلفائه، والمليشيات الشيعية التي تقودها
إيران، مما أثار كثيرا من الأسئلة حول أسباب التراجع السريع لفصائل المعارضة السورية، في وقت ترافق به الهجوم مع مفاوضات "جنيف 3" مطلع شباط/ فبراير الجاري.
فما هي الاستراتيجية التي اتبعتها
روسيا عسكريا وميدانيا؟ وإلى أين تسعى للتحرك بعد سيطرتها على القرى شمال حلب؟ وما أثر ذلك في المسار السياسي والمفاوضات بين النظام والمعارضة التي بدأت في جنيف، ومحادثات القوى الكبرى في ميونيخ؟
"خلل بنيوي"
إلى ذلك، أكد الكاتب السوري طارق العلي أن العمليات الروسيّة التي بدأت مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي، هي العامل الجديد والحاسم وشبه الوحيد الذي قلب معادلات ميدان
سوريا وحلب، موضحا أن "الروس جربوا في ريف حماة الشمالي في البداية، وفشلوا، مما دفعهم للبحث عن مكامن الضعف في دفاعات المقاومة واستغلالها".
وأشار العلي، في تصريحات خاصة لـ "
عربي21"، إلى أن الروس تمكنوا منذ منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بالتوسع غربا وشمالا واحتلال 380 كم 2، عبر عمليات برية (قوامها ملشيات شيعية لها قيادة إيرانية كانت قد وصلت حديثا) مدعومة بسلاح الجو الروسي، فيما أكد أن سبب ذلك يرجع إلى أن الروس أدركوا الخلل البنيوي في علاقات القوى الثورية في جبهة حلب، بالإضافة لاستنزافها على جبهتين أخريين هما جبهة تنظيم الدولة، وجبهة أكراد سوريا، متمثلة بالاتحاد الديمقراطي الكردي، وجناحه المسلح وحدات حماية الشعب، التي أصبحت العمود الفقري لما يسمى "قوى سوريا الديمقراطية".
وأوضح العلي أن الخلل البنيوي للفصائل في حلب أدى لقلة التنسيق، "نظرا لمشكلات بنيوية في تركيبة العلاقات بين قوى الثورة والمقاومة وافتقارها لنظرة تكتيكية واستراتيجية لما حدث، هذا طبعًا يضاف إلى خلل موازين القوة العسكري الفادح مقارنة مع النظام السوري وحلفائه، والافتقار إلى الدعم اللوجستي والاستخباراتي"، بحسب قوله.
قصف كثيف وضعف تحصينات
وبعد تحديد الجبهات، تقدمت القوات الروسية عبر عملية وصفها العلي، المختص في العمليات العسكرية في سوريا، بأنها "تقليدية"، مشبها إياها بالقصف الجوي في الحرب العالمية الثانية، مع أسطول جوي أحدث وصواريخ أكثر فتكا.
ففي حالة السيطرة على نبل والزهراء، في 3 شباط/ فبراير الماضي؛ أوضح العلي أن الطائرات حلقت على شكل أسراب، وقصفت بكثافة ووتيرة عالية، خالقة جدارا ناريا في منطقة بطول 6 كم، سمحت لمليشيات الأسد بالتقدم بسهولة نسبية.
من جانب آخر، أشار الكاتب والباحث السوري أحمد أبازيد إلى أن "استنزاف الفصائل في معركة ريف حلب الجنوبي وتقنين الدعم عليها بعد التدخل الروسي، وضعف التحصينات الهندسية للثوار في حلب" ساعد الحلف الروسي على التقدم، وهو ما أكده العلي مستشهدا بمعركة السيطرة على جبل الأكراد والتركمان، إذ إن "الخطط الدفاعية للثوار هناك لم تكن ملائمة مع طبيعة القصف الجوي الروسي الجديدة مع شدتها، ونقص في الأنفاق والخنادق والتمترس بالأرض، وهندسة بناء خطوط دفاعية متعاقبة تسمح بالكر والفر".
الوجهة المقبلة
وفي حلب؛ رأى الباحث أبازيد، في ورقة بحثية بعنوان: "ثوار حلب في مواجهة الطوق الإيراني - الروسي"، أن الهدف المقبل للتحالف الروسي، بعد تأمين الطريق الواصل إلى نبل والزهراء في حلب، سيكون توسيع نطاق السيطرة شمال وجنوب هذا الطريق، لتأمنيه وزيادة حجم استنزاف الفصائل الثورية، إضافة إلى استكمال تحويل جبهة حلب إلى جزر مقطعة يسهل حصارها، بدلا من محاولات الاقتحام ذات التكلفة البشرية العالية خاصة في المدينة.
أما جنوبا، فأشار "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" إلى أن "الوصول إلى معبر نصيب مع الأردن الهدف الأبرز لحملة النظام البرية في ريف درعا، ومن خلالها، يحاول النظام أن يستعيد أحد رموز السيادة المثلومة، وهي المعابر الحدودية مع دول الجوار، في محاولة لتعزيز صورته في أنّه يستعيد السيطرة تدريجيًا على البلد، أمّا الهدف الآخر الأبعد مدى، فهو محاولة السيطرة على الجزء الأكبر من الشريط الحدودي مع الأردن من جهة محافظة درعا، ومن ثم قطع تواصل المعارضة في هذه الجبهة مع الخارج".
"التفاوض في الميدان"
وبينما يلاحَظ بدء العملية العسكرية لاستعادة السيطرة على نبل والزهراء مطلع شباط/ فبراير الجاري؛ وهو اليوم نفسه الذي انطلقت به مفاوضات "جنيف 3" بين النظام والمعارضة السورية؛ كانت الغارات السورية خلال الشهر الماضي متركزة على ثلاث مناطق رئيسية: ريف اللاذقية، وريف حلب الشمالي، وريف درعا، في مناطق تخلو من تنظيم الدولة، ومن جبهة النصرة أو أي فصائل أخرى ذات توجه سلفي جهادي، بحسب ما أشار المركز العربي.
وأوضح المركز، في ورقة بحثية بعنوان "الاستراتيجية الروسية في سوريا: التفاوض في الميدان"، أن روسيا تسعى لإضعاف فصائل المعارضة المعتدلة ومحاصرتها، لإجبارها على قبول طروحاتها عن الحل، وفي الوقت نفسه، فرض ثنائية "النظام والإرهاب" واقعا ميدانيا وسياسيا، بما يسمح بإعادة تعريف المعارضة المعتدلة؛ بحيث تصبح "قوات سوريا الديمقراطية" الطرف المعترف به دوليًاً، بوصفه المكون الرئيس للمعارضة السورية.
وتابع المركز قوله إن "النظام وحلفاءه كانوا يسعون لتأمين غطاء سياسي، يسمح لهم بحسم عسكري في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، بما يمنحهم القدرة على فرض حلول سياسية، تلائمهم في أثناء جولات المفاوضات المقبلة".
ورجح أن يركز النظام وحلفاؤه، في جولات المفاوضات المقبلة، على نقطةٍ وحيدة في قرار مجلس الأمن 2254، هي وقف إطلاق النار؛ لأنّ وقفاً شاملاً لإطلاق النار فقط هو ما يمكن أن يسمح للنظام بتثبيت وجوده في المناطق التي سيطر عليها أخيراً؛ فهذه المناطق شديدة العداء له، ولن يكون بمقدوره أن يستمر في التمسّك بها، إلّا بوقف العمليات العسكرية فيها، بحسب تعبيره.
انهيار روسي
واستدرك المركز أنه "على الرغم من الاختراقات التي حققها النظام السوري بمعية حلفائه، وتحديدا روسيا، في الأسابيع الأخيرة، إلا أنه من غير المحتمل أن يتمكن النظام من تحقيق حسم عسكري شامل، لأنّ التكلفة البشرية التي تكبدها في محاولاته إطباق الحصار على حلب، تفوق قدرته على تعويض الخسائر، إضافة إلى أن القوة النارية الكثيفة التي تستخدمها روسيا، وعلى الرغم من فعاليتها، أثبتت أنها غير كافية للسماح للنظام بالسيطرة على الأرض، بعد قصفها وانسحاب قوى المعارضة منها".
وأكد أبازيد أن الثورة السورية لا زالت تحافظ على إمكانات عسكرية وطاقات بشرية وشرعية شعبية وأخلاقية متجذرة، مما يجعل إنهاءها مهمة شبه مستحيلة، ولكن ضعف الحلف الداعم لها سيضاعف من التكلفة البشرية والتاريخية لهذه الحرب، في حين أشار العلي إلى أن "انحسار العامل الروسي لسبب أو آخر سيؤدي بسرعة لانهيار قوات النظام على الأرض وفقدانه الأراضي".