"
الأندلس لنا وليست لهم.. هل في هذا شك؟"، هذا الرأي هو أحد أهم الآراء التي تثار في الثاني من يناير كل عام بذكرى سقوط الأندلس التي حدثت عام 1492م، رأي يعتبر الأندلس مجدا سليبا تجب إعادته بقوة السلاح، يقابله صوت آخر يعتبر الأندلس جزءا من ماض ذهب ولن يعود، فارضا ضرورة التكيف مع الوضع الجديد دون محاولة تحصيل الحقوق الماضية، ووسط هذه المعمة تضيع الجهود لخدمة قضية يتيمة على مدار القرون الماضية.
قضية الأندلس شائكة لتداعياتها الكثيرة المتنوعة، بداية من سيطرة ممالك شمال جزيرة أيبيريا (الأندلس)، بدعم من روما وفرنسا، على حكم المدن التي كانت تحت حكم أهلها المسلمين، ومن ثم خيانة الملك فرديناند لعهوده التي قطعها على أهل البلد بالأمان على أنفسهم وأهليهم، ومرورا بإجبارهم على اعتناق الديانة المسيحية، وحتى التعذيب الوحشي الذي لحق اليهود والمسلمين ومن ثم طردهم، وتدمير الحضارة التي نشأت هناك، أو الاستيلاء عليها من قبل الكنيسة وتغيير هويتها، ومحاولة طمس تاريخها أو تغييره.
طريقة علاج قضية مثل هذه تختلف بين عام وآخر، فما بالنا ونحن نتكلم عن خمسة قرون؟ فالأزمان تختلف وطريقة الصراع بين البلدان تتغير في كل عصر، وما كان مقبولا سابقا ربما يرفض في عصرنا، وما نقبله الآن لم يكن متاحا سابقا.
الأندلس سقطت في عهد كان الحكم فيها للمالك الكبيرة والإمبراطوريات، وكانت الدول حينها تتوسع بالسيف لا بغيره، ولم تكن الحدود مرسومة، وبين كل عام وعام تتغير حدود الممالك، صراع في بين ممالك أوروبا نفسها، وصراع مع العائلات الحاكمة للمسلمين في المنطقة العربية.
الأمر الطبيعي أنه لو ناقش المسلمون هذه القضية، في الثالث من يناير قبل 524 عاما، أي بعد يوم من
السقوط، لكان الحل الأمثل والأوضح هو محاولة لملمة شملهم، وتقوية عودهم، وتجهيز جيشهم،
وخوض معركة بل معارك لاستعادة الأرض التي خرجت من تحت حكمهم، ولكان إعادة الصراع وفق الأحكام القديمة هو الأسلوب الوحيد والأفضل والأمثل.
لكن بعد قرابة 524 عاما، وتغير النظام العالمي وطريقة الصراع، فإنه لا يمكننا أن نأتي بالأساليب القديمة وأن نفرضها وسائل وحيدة "لعودة الأندلس"، وإنصاف حقوق المظلومين وخلفهم، فأطراف الصراع تغيرت، ونظام الحكم اختلف، وطبيعة الشعوب انقلبت، وأصبح هناك واقع جديد ونظام عالمي جديد قبلناه، أو انجررنا إليه جرا، لكن بالنهاية عايشناه وتعاملنا معه، وهو النظام الدولي الحالي، والدول القطرية التي تحكم أغلبها نظم ديموقراطية، يختارها الشعب، وولى عصر زحف الممالك على بعضها والصراع العسكري اللامنتهي.
لذا، فإن على المسلمين، التركيز على ثلاث قضايا أساسية في الفترة الحالية، قد تشكل فارقا حقيقيا في دعم "الأندلس":
أول الأمور التي يجب بدء العمل عليها في ذكرى السقوط، هو دعم مطالبة آلاف المسلمين "الأندلسيين" الذي هاجروا قسرا من بلادهم، وسكنوا في شمال أفريقيا، العودة إلى إسبانيا والحصول على حقهم في سكن بلادهم ومنحهم الجنسية الإسبانية، بل وتعويضهم عن المرحلة التي عانى فيها أجدادهم، وهذا ما فعلته إسبانيا في العام الماضي لمحو العار القديم وما وصفته السلطات الحالية بـ"الخطأ التاريخي"، لكن مع اليهود السفارديم.
وثاني هذه الأمور دعم محاولات إحياء الثقافة الأندلسية الإسلامية، والسماح للمسلمين بإدارة بعض معالمهم الدينية، وعلى رأسها جامع قرطبة الشهير، ودعم الأصوات الإسبانية المنفتحة على ثقافتها القديمة معتبرة إياها جزءا لا يتجزأ من تاريخها الماضي، خصوصا مع تراجع شعبية اليمين المتطرف، الذي خسر مؤخرا أغلبيته في البرلمان.
والآن، هناك عدة جمعيات ومؤسسات أندلسية ترفض الاحتفال بيوم سقوط
غرناطة وهو ما يعرف بالإسبانية باسم "Dia de la Toma de Granada" (يوم استرداد غرناطة).
ثالث هذه الأمور استغلال الانفتاح والحريات الموجودة حاليا، والدعوة إلى ما نؤمن به، فإحدى أهم
دعوات الجهاد سابقا هي بسبب منع السلطات الحاكمة في الممالك الأخرى من حرية الاعتقاد. وكما قال الدكتور محمد المختار الشنقيطي في إحدى مقالاته، فإن الجهاد "موقف أخلاقي مع العدل والحرية ضد الظلم والقهر، والمجاهد يقاتل الظالم لظلمه لا لعقيدته أو مذهبه". وما دام العدل والحرية موجودين، فإن على من يؤمن بفكرته نشرها بالإعلام وعلى الأرض بكل الوسائل المتاحة.
قد نختلف على ما يحدث في نهاية هذه القضايا لو تمت، لكن على الأقل هو إجراء يجب أن يتخذ ربما وفاء لفترة ذهبية وأناس فريدون وحضارة مميزة.
انتهى