كتاب عربي 21

الإخوان المسلمون.. وجلد الذات

1300x600
ينشط الكثيرون من أبناء الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) هذه الأيام، بل ويتنافسون، في النقد الذاتي، وتتيح مواقع التواصل الاجتماعي لهذا النقد فرصة الانتشار على أوسع نطاق كما تتيح للمتلقين فرصة الرد والتفاعل مع ما يصلهم.

ما من شك في أن خيطا رفيعاً جدا يفصل بين ما هو نقد ذاتي وما هو جلد، بل وسلخ، للذات.
وفي تقديري أن كثيرا مما يصنف على أنه نقد ذاتي ما هو إلا جلد للذات يصل أحياناً إلى حد الطعن في الظهر من حيث يدري ممارسه أو لا يدري. 

ولقد تورط في ذلك عدد من الإعلاميين المحسوبين على الإخوان وكذلك عدد من المسؤولين السابقين في إدارة الرئيس مرسي بعد مغادرتهم مصر إثر الانقلاب العسكري في صائفة عام 2013، ظناً منهم – أو كما زين لهم بعض من وثقوا بنصحهم – أن النقد الذاتي سيحسب لهم ولحركتهم، فإذا به يحسب عليهم وعلى حركتهم، التي أدانها خصومها بشهادات من بعض أبنائها. 

ولعل من أهم هذه الإدانات وأخطرها على الإطلاق تقرير المراجعة البريطانية في فكر ونشاط جماعة الإخوان المسلمين، والتي أجراها بناء على طلب رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون سفيره السابق لدى المملكة العربية السعودية السير جون جينكينز، الذي كانت إحدى استنتاجاته بشأن تجربة السنة التي قضاها الدكتور محمد مرسي في الحكم تنص تحديدا على ما يلي: "لم تبذل جماعة الإخوان المسلمين ما يكفي لإثبات اعتدالها السياسي أو التزامها بقيم الديمقراطية، كما أن (الإخوان) أخفقوا في إقناع المصريين بكفاءتهم وبحسن نواياهم، وقد حاولوا فيما بعد جاهدين استخلاص العبر مما يعنيه إخفاقهم ذلك في مصر بالنسبة لمستقبل جماعتهم".

من تابع شهادات بعض الوزراء في إدارة مرسي في لقاءاتهم مع أحمد منصور على قناة الجزيرة، وما كتبه بعضهم وآخرون غيرهم في مقالات أو ذكروه في مقابلات صحفية، لن يتردد في التماس العذر للسير جون جينكنز على  استنتاجه المذكور أعلاه.

قال لهؤلاء الشهود بعض ناصحيهم بأنهم إذا اعترفوا بأخطاء الإخوان وقصور إدارة مرسي فإنهم قد يكسبون الرأي العام لصالحهم، فذهبوا يكررون على الملأ اعترافات بأن الإخوان لم ينفتحوا على الآخرين بما فيه الكفاية، ولم يمدوا أيديهم إلى غيرهم ليشركوهم معهم في الحكم أو في صناعة القرار، وأن خطابهم السياسي أخاف غيرهم منهم، وأنهم لم يكونوا على دراية كافية بإدارة شؤون البلاد، وغير ذلك مما توهموا أنها اعترافات تجلب لهم التعاطف. 

قد لا يلام من تحولت أقلامهم أو أصواتهم من داخل البيت الإخواني إلى سياط لجلد الذات، فالمصاب أليم، والجرح غائر، والفتنة عامة طامة. ولقد بات كثير من الناس من هول ما ألم بهم في حيرة من أمرهم لم يسلم منها حتى من كان يُنعت من بينهم بالحكيم الرشيد. جل هذا الجلد الذاتي رد فعل لا يملك بعض الناس في المحن الشديدة سواه. 

لكن، أما ونحن مقبلون على ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير، حري بنا أن نحث أبناء جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفي الأقطار العربية كافة وحول العالم على التريث والتدبر، فلعلهم بذلك يقتربون أكثر فأكثر من النقد الذاتي المحمود ويبتعدون أكثر فأكثر عن جلد الذات المذموم. 

لم تكن جماعة الإخوان المسلمين هي التي أطلقت الانتفاضات العربية التي سرعان ما تكالب العالم بأسره عليها وتعاضد على إخمادها. بل كانت تلك انتفاضات شعبية عفوية، فجرها شباب غاضب، لأسباب متعددة ومتداخلة – اقتصادية واجتماعية وسياسية، يمكن تلخيصها بعنوان واحد هو "الشعور بالمهانة". لم يكن كثير من الشباب الذين ثاروا على أنظمة الاستبداد والفساد مؤطرين ولا منظمين ولا مؤدلجين، ولكنهم بما تفجر في نفوسهم من غضب تمكنوا من تحريك المياه الراكدة في مجتمعاتهم، حتى تحولت سيولاً هادرة جرفت في بعض البلدان ما جرفت وأطاحت فيها ما أطاحت. 

ماذا كان رد فعل جماعة الإخوان المسلمين على هذا الانفجار الغاضب؟ لا أبالغ إن قلت إن الجماعة فوجئت به كما فوجئ غيرها من التنظيمات السياسية العتيقة، لكنها لم تجد مفرا من أن تلحق بالركب – كما  فعل غيرها من التنظيمات السياسية والتيارات الفكرية – حتى انتهى بها المطاف للتصدر لهذا الحراك.

لم يكن الحياد في مثل هذه الحالة خيارا، وما كان يمكن أن ترفض الحركة الإسلامية الاستجابة لنداءات الجماهير الباحثة عمن يقود عملية التغيير. فقادت الحركة المسيرة، باذلة الجهد لترشيد الحراك وتوجيهه واستثماره، راجية تحقيق التغيير الذي ما لبثت تنشده وتناضل من أجله منذ عقود، والانتقال بالبلاد من أنظمة حكم فاسدة ومستبدة إلى أنظمة حكم تنبثق عن الإرادة الحرة للشعوب، وتكون خادمة لها لا متسلطة عليها. والتصدر يعني لا محالة تحمل الأعباء وتكبد التكاليف. 

خلال شهور من الغليان كان لابد من اتخاذ قرارات مصيرية حاسمة والتعامل مع واقع سريع التغير والتقلب، فاق بمتطلباته كل قدرات الجماعة بل وقدرات مكونات المجتمع السياسي المستقل بأسرها. 

وهنا ابتليت آليات اتخاذ القرار داخل الجماعة بلاء شديداً، وامتحنت قدراتها المادية والبشرية امتحانا عسيرا، ولم يكن ثمة مفر من الاجتهاد ثم الاجتهاد استجابة لإلحاح قضايا ميدانية وعملياتية يومية، بل وآنية، كانت حتى أسابيع خلت غائبة، وفي أحسن الأحوال موضع تنظير مجرد. 

ولابد من يوم في المستقبل القريب أو البعيد تفتح فيه أبواب المراجعة والتقييم لهذه الاجتهادات التي كان بعضها صائباً وبعضها لا محالة خاطئاً. وحينها سيتاح المجال أمام الدارسين لإعداد أطروحات علمية في مختلف المستويات الأكاديمية حول هذه القضايا. 

وأقول في يوم من الأيام لأن من كانوا في موقع القرار جلهم اليوم مغيب وراء القضبان وبعضهم قضى نحبه وبعضهم تشتت في المنافي. ومن يتجرأ ممن نجا من الكارثة على تقييم أداء الإخوان ما قبل الانقلاب، وخاصة من انتهى به الأمر في المنافي، إنما يقدم قراءة مجتزأة، ويعرض الأمور من زاوية تجربة خاصة محدودة، ولست هنا في وارد الحديث في النوايا، فما في الصدور لا يعلمه إلا علام الغيوب المطلع وحده على مكنون النفوس. 

ربما كان يمكن أن تدار بعض الأمور بطريقة أفضل، ولعل بعض الاجتهادات ساهمت في إعاقة أو تعطيل هنا أو هناك، أو في تفويت فرصة كانت سانحة. ولعل بعض الناس لو استقبل من أمره ما استدبر ما كان ليفعل أشياء معينة أو ما كان ليسلك طرقاً معينة، ولكن كل ذلك يظل في دائرة الظن والاحتمال. 

أما ما هو يقيني في تقديري فهو أن ما آلت إليه الأمور كان حتمياً ليس بسبب خطأ في الاجتهاد أو خلل في التنظيم أو سوء في الإدارة – مع عدم استبعاد وجود بعضها أو جميعا – وإنما لأن ميزان القوة محلياً وإقليمياً ودولياً لم يكن بعد قد ترجح لصالح التغيير المنشود، ولا لصالح انتصار ثورات الربيع العربي.  

وتلك في نظري هي القضية التي تستحق الاهتمام، بل وينبغي التركيز عليها دون سواها بينما تبذل الجهود لاستعادة زخم الثورة ولحشد الرأي العام في مصر وفي خارجها ضد الانقلاب.  

قد يظن البعض أنه لو كان في موقع الرئيس محمد مرسي لربما اتخذ من القرارات وانتهج من السياسات ما حال دون نجاح الانقلاب الذي خطط له ونفذه المعارضون له ولجماعته في مصر من داخل الجيش والأجهزة الأمنية والسلك القضائي وقطاع رجال الأعمال ووسائل الإعلام والتيارات العلمانية – ليبرالية ويسارية، إضافة إلى زعامة الكنيسة القبطية، ومولته ووفرت له الغطاء الدبلوماسي والسياسي على مستوى النظام الدولي كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومن تحالف معهما من حكومات مناهضة للربيع العربي.

وقد يظن البعض أنه لو كانت تشكيلة قيادة الإخوان مختلفة لربما تغير مسار التاريخ، وقد يظن البعض الآخر أنه لو قدم الإخوان تنازلات معينة لما حاقت بهم الكارثة، بينما قد يظن آخرون أن سبب الكارثة إنما يكمن في التنازلات الكثيرة التي قدمها الإخوان لخصومهم والتساهلات التي أبدوها في التعامل مع أركان الدولة العميقة. 

مهما عمل الإخوان ما بين الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 لم يكن ليغير من مجرى الأحداث، فهم اجتهدوا وسعهم ضمن ما كان متاحاً لديهم من إمكانيات ومعلومات، وأجروا حسبتهم بناء على ما توفر لهم من معطيات، ولكن مكر خصوم الربيع العربي، أعداء الشعوب، كان أدهى وأقوى وأسبق.

ونعلم الآن أن أكبر طعنة ربما تلقاها الربيع العربي جاءت من الشعوب التي في سبيل حريتها وكرامتها ضحى الإخوان ومن شاركهم في مسيرة الثورة التي أجهضت، فقد تبين أن هذه الشعوب لم تكن مستعدة للتغيير، وقد لا تكون مستعدة إلى حين، الأمر الذي يتطلب مزيداً من العمل والإعداد والتضحيات، ومزيداً من المراجعة واستلهام العبر والدروس، بعيدا عن جلد الذات والطعن في الظهور. 
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع