ثمّة ضجة مبالغ فيها، على مواقع التواصل الاجتماعي، حول حجاب المطربة الأردنية نداء شرارة، التي تمكّنت من الفوز بمسابقة "أحلى صوت" (The Voice) العربية عن جدارة وباقتدار!
لستُ هنا بصدد مناقشة الفتوى الدينية، وأنا بطبيعة الحال والتخصص لست مخوّلا بذلك، ولا أملك هذه الماكينة المعرفية. لكن ما أريد أن أناقشه من منظور آخر، يتأسس على "الملاحظة الاجتماعية" المرتبطة بـ"الخطاب الديني" عموما، لمسار فتاوى الموسيقى في حقل المتدينين والحركات الإسلامية وتطورها خلال العقود الأخيرة، من ناحية. وكذلك موضوع التدين والقبول بالرأي الآخر والعلاقة مع الفنون والآداب ومفاهيم الناس حول الدين، من ناحية أخرى، وهو موضوع وإن كان يقع خارج منهج استخراج الأحكام الشرعية من النصوص، إلاّ أنّه يرتبط بزاوية أخرى في المجال الفقهي، أي فقه الواقع، على قاعدة "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره"!
لو رصدنا الموقف الفقهي للحركات الإسلامية، التي تمثّل جمهورا واسعا من المتدينين والمحافظين اليوم، فسنجد أنّها كانت، سابقا، تقول بتحريم الموسيقى، وتجيز الدفّ. ثم تطوّرت الفتوى لديها لإجازة "الدرمز" والإيقاع، وهي عمليا أصوات موسيقية، إلاّ أنّ الحركات الإسلامية عموما تجاوزت تماما في الأعوام الأخيرة حرمة الموسيقى، وأخذت بالفتاوى التي تبيحها، فنجد الفرق الإسلامية المشهورة اليوم تستخدم الموسيقى بأنواعها كافة، وكذلك حال أشهر المنشدين المعروفين في أوساط الشباب المتدين!
باستثناء التيار السلفي العام، الذي ما يزال على موقفه المعروف من تحريم الموسيقى والغناء، فإن الحال في الأردن وكثير من الدول العربية تغيّرت، وأصبح جمهور واسع من المتدينين اليوم يقبل بالاستماع للموسيقى، ضمن منظومة الأناشيد الجهادية أو الحماسية والوطنية وغيرها، والمديح النبوي، وحتى في أناشيد الأطفال، كما هي حال القنوات المعروفة.
ضمن هذا المستوى من النقاش، فما الفرق بين الأناشيد الإسلامية الحالية والأغاني العربية، كتلك التي قدّمتها نداء شرارة؟! الكلمات هي من الشعر. والشعر العربي، الذي توارثناه منذ عصور الإسلام الأولى (وقبلها بالطبع)، ويمثل المادة الواسعة للأدب العربي، مسكون بكلمات الغزل والمديح والهجاء، ويتضمن ما هو أكثر بكثير مما تحتويه كلمات الأغاني المعاصرة، وهو أدب ينتمي إلى الحضارة العربية والإسلامية في أزهى عصورها، فما هو الموقف منه؛ هل نتّهم تلك الحضارة بالردة أو الانحراف؟! أم هو جزء منها، لا بد أن نقبل به؟! وإذا قبلنا به منذ تلك الفترة، ألا نقبل به اليوم ونحن في عصور التراجع والتخلف والجمود الديني والفقهي؟!
الزاوية الأخرى من النقاش ترتبط بوجود فريق من العلماء المعاصرين الذين لا يحرّمون الغناء، وفي مقدمتهم الشيخ الراحل محمد الغزالي ود. يوسف القرضاوي. ومن العلماء السابقين مجموعة معتبرة، في مقدمتهم أبو حامد الغزالي وابن حزم وغيرهما، مع وجود فريق آخر يحرّم الغناء لما يصاحبه من مظاهر وحيثيات تعتبر محرّمة شرعا.
في حالة نداء شرارة، هي تقدّم نموذجا مختلفا يجمع بين الالتزام بالحجاب (دينيا)، والغناء العربي. وقد سبقها إلى ذلك مطربون وممثلون وممثلات التزموا بمظاهر من التديّن، وفق منظورهم، مع حفاظهم على مهنتهم، ولدينا حالات عديدة من مصر.
بالمناسبة، يذكرني الموقف من الغناء بالموقف من الديمقراطية وكيف تطوّر لدى شريحة واسعة من الإسلاميين؛ من التحريم والتكفير إلى التبني الكامل. حتى السلفيون الذين كانوا يقولون بالحرمة في مصر، أصبحوا يقولون بها جزئيا، كما كان يفعل "الإخوان" قبلهم، ثم تبنوا الديمقراطية بالكلية!
بالطبع، الموسيقى ليست كالديمقراطية، ولكّل حيثياته ونطاق أحكامه الفقهي والديني. لكنّ مفاهيم الناس الدينية تتطوّر، ورؤيتهم لمفهوم الإيمان والالتزام تتحوّل.
عن صحيفة الغد الأردنية