تستحق
الأغنية الثورية أن تُبذَلَ لها جهود لأرشفتها وتأريخها كونها عكست البدايات والمنعطفات والتغيرات والمآلات والانتصارات والإحباطات التي عرفتها الثورة السورية، وعبرت عن أعمق المشاعر وأغناها.
ولما كان
الساروت أحد أبرز المنشدين الذين غنوا للثورة بأسلوب شعبي محبب، ولما كانت مدينته سباقة في خطف الأضواء وجذب الانتباه العالمي بمبادرتها الشجاعة وبحصارها الجائر وبتدميرها الممنهج على أيدي قوات الطاغية، ولما كانت مسيرة حياته الثورية حافلة ومتطورة من منشد إلى محاصَر فمقاتل وسطي فمشتبه به بالانضمام إلى تنظيم الدولة بما يعكس التطورات والتقلبات المفهومة التي طرأت على بعض الشباب الثوري نتيجة طول المعركة وقساوتها ولامعقولية فاشية الأسد وخذلان الحلفاء المفترضين. لما كان كل ذلك، كان التركيز عليه منطقياً ومفهوماً، لاسيما مع رحيل القاشوش مبكراً وهو الذي كان مرشحاً بقوة لإغناء حقل (ثغر) الأغنية الثورية.
سيتم في هذه العجالة التطرق إلى ثلاث أغنيات للساروت نالت شهرة كبيرة ودلّت على منعرجات الثورة ومراحلها المتعاقبة، لاسيما أنها أُدِّيَتْ في أزمنة وأمكنة متتالية ما يمنحها سمة كرونولوجية، وهي بالترتيب:
1-
جنة جنة جنة
2- لأجل عيونك ياحمص
3- يامن خذلت الخاي
1- بدايات الثورة وجلبابها الفضفاض الذي يسع الجميع:
لعل أول مايلفت الانتباه في النسخة السورية من أغنية "جنة جنة جنة" المشهورة والأسبق على الربيع العربي، هي أنها حاولت قدر الإمكان التعبير عن شمول الثورة كافة أرجاء التراب الوطني.
ففي كلمات الأغنية بعد توطينها (تبيئتها) نلحظ محاولة جاءت في محلها لإعطاء انطباع للعالم بأن كل مناطق وطوائف وعرقيات سورية مساهِمة بشكل أو بآخر بالثورة، حتى ولو اقتضى الأمر بعض المبالغة، كما خلت من أي إشارة لطائفة الثائرين وانحصر تركيزها فقط على مفاهيم الثورة والحرية والفزعة بما يتوافق مع خصوصية المرحلة السلمية وسراية الروح الثورية من محافظة لأخرى بشكل تدرجي.
فالبداية كانت من درعا "مسند حلمنا" التي أشعلت "عتمتنا"، تلتها حمص من باب النجدة التي أقلعت عن الخوف (باست التوبة)، ثم تسلسل الأمر إلى جرح سورية الغائر "حماه" مع طلب العفو منها عمّا حلَّ بها قديماً ثم كرت السبحة من جسر الشغور إلى الرستن فالرقة فالقامشلي فالساحل.
وفي مقابل إيغال النظام بالدم كان تأكيد الأغنية على السلمية و على أن "شهيدنا لا ما مات" مع أداتيْ نفي، وزغرودة تحدٍ ووداع.
ناسبتْ هذه الأغنية بحق ظروفَ المرحلة التي أطلقت فيها من حيث الحماس والتفاؤل والشعور باستسهال مهمة استرداد البلد بعد اختطاف طال أمده، ومن حيث عكسها لإدراك الجماهير لأول مرة بقيمتها وبمقدرتها على اجتراح التغيير المنشود بقليل من الصبر والتحمل.
2- العسكرة وحصار حمص:
مع استمرار نظام الجريمة في القتل والقنص والاعتقال والتعذيب ومع صمه الآذان عن نداءات التغيير، كان من الطبيعي تحول الثورة لحرب تحرر.
وفي خضم الحرب يرتفع عادة مقام السلاح وتعلو قيم التضامن وتتشابك الأيادي وتضيق شريحة المخاطَبين التي كانت واسعة زمن المظاهرات لتغدو مقتصرة على الصفوة الصابرة من جهة، وعلى حاضنة هذه الصفوة الشعبية (الأكثرية السنية) من جهة أخرى.
وكما هو متوقع مع تبدد إمكانية الاجتماع في الساحات الفسيحة وإفشال التجمعات الكبيرة وانعدام الفعاليات الحاشدة وتعسكُّر المشهد وضيق المكان وبَدْء الحصار، أُدّيَتْ أغنية "لأجل عيونك ياحمص" في غرفة صغيرة يحتشد فيها نفر قليل من الثائرين يتواصون بالكفاح والصمود حتى النهاية "ما أطلع منك يا حمص .. لو هالروح تروح" ويستحضرون قيم الثبات والصبر، ولأول مرة –وبتغير ملحوظ وانسجاماً مع حقيقة اضطلاع السنة بمهمة الثورة وانكشاف عورة باقي الأقليات كأنصاف ثوريين بأحسن الأحوال- توجَّهَ الساروت بالخطاب بشكل مباشر إلى "السني" لاستثارته (يا سني..ما أقبل عذرك يلّا قوم..امشي بدربك) مستصرخاً نخوته لإنهاء "هالمواجع"، بعد أن كانت نداءاته في المرحلة السابقة عامة وخالية من أي إشارة لمذهب المخاطَب.
3-الفرودس المفقود "سورُكَ ياسِجْنَ الطغاة عالٍ":
مع المعاناة العامة والشخصية التي فطرت قلب الساروت عقب معركة المطاحن التي فقد فيها شقيقيْه والتي عُدَّتْ آخر محاولات المحاصَرين المضنية لفك الحصار وبعد تبلور قناعة "لاجدوى" البقاء في أحياء حمص المحاصرة وتفشي المجاعة وظهور أعراض الهزال وإفشال أي تحرك جاد لإنقاذ المدينة على نحو يرجح حصول "تدخل خارجي غامض" معيق، ولمّا تقرر الخروج من حمص نهائياً عبر مفاوضات ناب فيها الغازي الإيراني عن وكيله الغائب الوضيع مع استحضار تاريخي لفاجعة الرحيل عن غرناطة وما أثارته من زفرات وآهات، أطلقَ الساروت من ريف حمص الشمالي مرثيته الحزينة التي تقطر مرارة وأسى عما آل إليه حال عاصمة الثورة حمص من انطفاء وضياع، حيث بثّ فيها شكواه إلى الله مما لاقاه من خذلان "وطعن في الظهر" من المقربين الأخوة بما يشبه مناجاة يوسف في السجن وشكوى يعقوب وحيداً وصدى ضياع فلسطين على مذبح تشرذم الأشقاء، وحذّر فيها من مآل أليم مماثل قد يطال بقية المدن مادامت "الأيادي مبعثرة".
انطبعت تجربة الساروت الغنائية مع مرور الوقت بطابع المحلية الحمصية وبشجون التجربة المريرة فيها، زاد من حضور هذه المحلية تقطيعُ النظام لأوصال البلد مما خلق هموماً مرتبطة بكل منطقة على حدة لكن من دون أن يغيب الهم العام العابر.
لم تنته تجربة الساروت ولم يسدل الستار بعد، ولازالت القصة السورية من دون فصل الختام ولازالت حرب التحرر التي تحولت لحرب استقلال قائمة، وستبقى حنجرة الساروت خير معبر عن مشوار سورية الطويل -باستقاماته والتواءاته- نحو الخلاص الذي نسأل الله تعالى أن يكون بالقريب العاجل.