المشهد الآن..
البَهْتَةُ حالة/توصيف يطلقه التونسيون على حالة الاندهاش إمام حدث غريب أو كائن غير قابل للتصنيف. هم الآن في قمة البهتة لما يرونه يجري أمام أعينهم في دهاليز الحزب الحاكم بعد أقل من سنة من فوزه في الانتخابات وتصدره للحكم وقد قدم نفسه في صيغة المنقذ من ضلال الترويكا وأطروحاتها الرجعية. الجميع يسأل ماذا يجري؟ ولماذا؟ فيما يتمتع آخرون بحالة من التشفي في من يعتبره "الجمهور الغبي" الذي منح هذا الحزب أصواته وانتظر المعجزات التنموية فأفاق على خيبة كاسحة توشك أن تعصف بالبلد. فهل يمكن الإمساك بسبب معقول لفهم ما يجري؟
بعض التاريخ القريب للتدبُّر..
مفتاح أول لفهم ما يجري نجده في طبيعة المجموعات السياسية التونسية التي كونت المشهد الندائي. في ما عرفنا من قواعد تأليف الأحزاب لم نر مثل هذه التركيبة الغريبة. تكون حزب نداء تونس من شقين:
الأول: نخبة يسارية حداثية الهوى لائكية في رؤيتها للعالم وعلى الطريقة الديكارتية القصووية. عاشت بمشروع واحد هو فرض أجندتها الحداثية القائمة على إقصاء الإسلام السياسي منذ ظهوره للوجود في السبعينيات. وهي الجماعة التي سماها الجزائريون بحزب فرنسا.
الثاني: نخبة من المتنفذين ماليا ممن يمكن نعتهم بالبرجوازية المحترفة في المناولة عند رأس المال الدولي. تقود جمهورا ريفيا محافظا ومُجَهًّلا. الجمهور ضمن التصويت بالرشوة لأنه لم يترب على الديمقراطية والنخبة ضمنت مقاعدها وشرعت في تنفيذ أجندتها، استعادة قدرتها على النهب المُقَنَّن.لكن هنا برز تناقض المصالح والأهداف
الشق الثاني هو المالك للمال وللماكينة الحزبية الحقيقية للتجمع الذي كان حاكما وأسقطه الشارع. فَكَمَنَ وظل يسعى للعودة. متخفيا وراء شعارات نسجها له الشق الأول كالحفاظ على الدولة ونمط التحديث التقدمي الذي أرساه الزعيم المؤسس. ولم يتورع الشقان عن العصف بحكومة منتخبة بذرائع ووسائل منها الاغتيال السياسي.
لقد اتخذ الشق الثاني (التجمع) الشق الأول (الحداثي) مطيًّة للعودة. فيما كان شق الحداثة يعتقد أنه يركبه ليحكم بماله وجمهوره. ولكن غاب عنه أن سبب الاختفاء والخوف قد سقط ولم يعد هناك من داع للكمون وراء أي كان.
الأمر قبل الانفجار الذي يصل صداه الآن إلى السويد. يقول اليسار شكرا لماكينة التجمع التي وضعت اليسار في السلطة لكن ماكينة التجمع نفسها تسخر شكرا لليسار الحداثوي الذي انبطح قنطرة فعدنا عليها إلى السلطة.
ساءت نية الشركاء لقرب الغنيمة وسهولتها خاصة وأن الظرف الدولي موات جدا بما يمنحه من دعم على أساس قطع الطريق على الإسلام السياسي المنافس الحقيقي في الشارع والذي فضل الانحناء للريح وانتظار جلاء المعركة التي ربما سبق آخرين في توقعها ورتب أمره على قطف نتائجها لكنه ليس الذكي الوحيد في المشهد.
من لا يشارك في المعركة لا حق له في الفيء
في هذا المشهد القتالي بين شقين فقدا الثقة في بعضهما يشعر الصادقون بالخطر على البلد والمؤسسة نفسها. احتمال الكارثة والتسيب والفوضى واردة جدا. لكن الأمر يزداد سوءا عندما نرى أن في المشهد متربصين لا ينبسون بحرف أو موقف حول ما يجري بل ينتظرون تفكك الحزب الحاكم لجمع الفيء. يبررون الصمت على هذه الحالة بأن كل اجتماع ضدها يعيد التحامها وهو تبرير غبي إذ لو تتبعنا نتيجته لكانت كما يلي. لحظة سقوط الحزب الحاكم يجد معارضوه أنفسهم متفرقين أيضا وبلا موقف ولا قدرة على الحلول محله. لكن هذا الموقف المتذاكي يخفي تكتيكا آخر أقرب إلى أخلاق الضباع وسلوكها.
دع النهضة تتسخ بالتحالف مع حزب النداء وتفتته (لأنهم يفترضون أن حزب النهضة يفعل ذلك كل صباح) ونحن نتطهر على حسابه ونعلن العفة السياسية فإذا أجهز عليه نقدم أنفسنا بديلا. فالنهضة لا يمكنها أن تحكم (هكذا في اتفاق ضمني مع كل أعداء الإسلام السياسي في الخارج والداخل). لتقم هي بالهدم ونحن سنرث البناء. تماما كما تتحزب الضباع على نمر قتل غزالة فتسرقها منه بالعدد والخِسَّة.
نخبة الربح السهل لا تختلف في شيء عن نخبة الحزب الحاكم إلا أنها أطمعُ منها مما يعلمها الخسة أكثر. فتحتال لبقائها بأكل الجيفة ولا تصطاد. إنها تنتظر فيء معارك لا تخوضها وقديما وزع الفيء على المحاربين بينما مات القاعدون والمخلفون بحسرتهم. نخبة مخلفة ستنتهي إلى فناء سياسي سريع وتتقن حديث المقاهي والرثاء. فالدهر لا يمنح فرصا جيدة بلا حساب. من لم يجهز على النداء الآن لن ينال فيئه.
حزب الفقراء سيصوم الدهر
هنا تاه تحليل الرفاق عن المذهب. وتاه تحليل كل من زعم الانتماء إلى الشعب المفقر. المعركة في جوهرها معركة اجتماعية بين أغنياء ومفقرين. غلفت عمدا بأطروحات فكرية تقدمية ضد رجعية أو حداثية ضد أصولية (معركة هوية) لكن باطنها أن أغنياء النظام الذين حطمت الثورة مكانتهم الاجتماعية يستعيدونها الآن بوسائلهم المعتادة (المناورة والكيد والتناحر) مستخدمين الفقراء أنفسهم في الصراع.
وعوض أن ينتبه أبناء المفقرين إلى أنهم ألعوبة في يد هذه الطبقة الفاسدة فأنهم ينطرحون لها جسرا لتعود عليه إلى مجدها وتواصل العبث بمصيرهم. لقد كان هذا واضحا منذ اعتصام الرحيل في صيف 2013. قدم اليسار التونسي بشقيه الثقافي والجماهيري خدمة جليلة للتجمعين فغطى عودتهم للساحة وشرع وجودهم. وظن أن قد حَكَمَهُم بفضله عليهم ولم ينتبه إلى أنهم منذ انتخابات 2014 قد شرعوا في عزله ووضعه في الصفوف الخلفية أي في موقعه الدائم كزينة سياسيوية.
هذه الطبقة تملك المال وتملك آلة انتخابية جيدة أثبتت قدرتها على جلب الموتى للتصويت (وهو تقليد قديم عندها) ولا شك أنها بعد أن استعادت شرعيتها بالانتخاب تسأل لماذا قد تعطي وسائلها لغيرها وتظل كامنة وراء حجاب؟ هي لست في حاجة إلى خدمات من اليسار المغرم بالنظرية دون رؤية عناصرها تتحرك في الأرض. طبقة برجوازية جمعت أخلاق الإقطاع وقيمه إلى فساد رأس المال التابع إلى إجرامية الدكتاتوريات العسكرية وحكمت بهذه الخلطة منذ نشأتها. لم تجد شجاعة البرجوازيات الوطنية لتدافع عن انجازاتها فانحت للعاصفة بجبن مثالي ثم رفعت رأسها لتستعيد ممتلكاتها فيما جمهور الفقراء الذي أسقطها لا يزال يناقش في كراسته أشكال الصراع الطبقي في الدولة التابعة. ولو رفع رأسه عن الكراس لرأى المثال مجسدا.
يستوي في هذا الموقف من هذه الطبقة الفاسدة اليسار الذي يمعن في تنظير الصراع الاجتماعي والقومي العروبي الذي آمن بالاشتراكية والإصلاح الزراعي وإعادة التوزيع المتكافئ والإسلامي السياسي الذي طالما روج لأطروحة الإسلام العادل اجتماعيا. ويزيد الأمر بؤسا أن هؤلاء المفعمون بالنظريات ينتمون جميعهم إلى فقراء البلد يعرفون موقعهم ومطلبهم وعدوهم لكنهم يفضلون الاستعاضة بالشطرنج على الشارع. فيقدمون لعدوهم وقتا كافيا ليتخذ مكانه ويشرع في دورة حكم جديدة ولو ببيع حليِّ البلد إلى المرابين في أطراف الأرض. يتيه الجميع عن المعركة الاجتماعية منتظرا أن يسقط بيت النظام القديم على نفسه. تيه لذيذ وممتع كمتعة قتل الملك على الرقعة تحت التكييف.