حفلت السنتين الأخيرتين من الثورة السورية بالكثير من الأحداث، وأبرزها كان امتداد نفوذ تنظيم الدولة، مبرزا نفسه فصيلا قويا له نفوذه، في الوقت الذي كانت فيه العديد من كتائب الثوار تخسر نقاطها وتتراجع وتعقد المصالحات مع قوات النظام في بعض المناطق، بينما كان تتهم كتائب أخرى بالولاءات لأطراف خارجية، الأمر الذي بات يثير استياء الكثير من الثوار.
وشملت "انتصارات" تنظيم الدولة حتى الآن تحرير مطار الطبقة العسكري، والسيطرة على مساحات واسعة من العراق بعد تمدده في سوريا، ثم بسط سيطرته على القريتين غرب تدمر، والسيطرة على الفرقة السابعة في الرقة، إضافة إلى تحكمه بعدد من آبار الغاز والنفط الأساسية في سوريا، مع توسعه غربا في ريف حلب الشمالي، ثم بسط سيطرته على مدينة تدمر.
أغرت هذه "الانتصارات" المتلاحقة، التي رافقتها حملة إعلامية للتنظيم، العديد من شباب الثورة السورية. فقيام "دولة" قوية ذات نفوذ لها جيش وشرطة وخدمات اجتماعية، وتعليمية، ودينية، ولها نظامها الخاص في ظل الفوضى التي كان يعيشها هؤلاء الشباب، جعل منها حلما ينتظرون تحقيقه، وفق رؤية هؤلاء الشباب الذين تحولوا للالتحاق بالتنظيم.
أبو عمر، أحد أبرز ناشطي الثورة في دمشق، كان من أوائل المنتفضين ضد النظام، وهو شاب جامعي عمره 25 عاما، شارك في العديد من المظاهرات، ثم انتقل إلى العمل العسكري في ريف دمشق. واستمر في عمله مع العديد من الكتائب، ولم يترك مجالا طبيا أو إغاثيا أو إعلاميا لم ينخرط فيه، حتى غاب عن الأنظار لما يزيد السنة عن الأنظار، وبات الجميع يظن أنه قد قتل أو اختطف.
ظهر أبو عمر قبل شهور، معلنا بيعته لتنظيم للدولة، بعدما سافر إلى الشمال السوري، وعكف على دراسة منهج التنظيم، وعاش في كنفه، ورأى حياة أخرى غير التي عاشها في دمشق وريفها، بحسب ما عبر عنه على صفحته.
فقد تحدث أبو عمر عن التنظيم، وعن هجرة الكثيرين من غير السوريين إليه، حتى بات أبو عمر أحد أبرز "طلاب العلم" (كما يصف نفسه) والمنخرطين بين صفوف التنظيم، ولم يعد حلمه بناء دولة حرية وديمقراطية، بتأسيس "دولة إسلامية".
ولم يكن أبو عمر هو الوحيد الذي خرج من الثورة لينضم للتنظيم، فهناك من احتج على محاربة التنظيم، ومن هؤلاء "أبو منذر سلف" الذي بات الآن أميرا لتنظيم الدولة في بساتين برزة والقابون.
كان أبو منذر أحد الثوار، وله أخ قتل تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري. انخرط أبو منذر في القتال على جبهات عديدة في دمشق، إلى حين عقد الهدنة في حي برزة مع النظام، وتوقيع وقف لإطلاق النار في حي القابون.
فقد رأى أبو منذر أن هذه الهدن ما هي إلا "خيانة لدماء الشهداء" ومحاولة من الكتائب التي وقعتها لوضع يدها بيد النظام، متهما إياها بـ"التواطؤ"، فأعلن انفصاله عن كتائب الثوار، وانضمامه إلى تنظيم الدولة، وجند معه العشرات من الشباب عن طريق وعوده لهم بتسليحهم بشكل أفضل من باقي الفصائل، في حين كانت كتائب الثوار في الغوطة الشرقية ترفض إعطاء السلاح إلا بإجراءات وشروط.
وبالفعل، انضم له العشرات من الشباب، إلا أن المعارك الأخيرة التي شنها جيش الإسلام واللواء الأول، في بساتين برزة وحرستا والقابون (شمال شرق دمشق)، قضت على وجود التنظيم بالكامل في هذه المناطق، وانتهت بأسر أميره "أبو منذر" الذي بات مجهول المصير.
الجدير ذكره، أن الكثيرين ممن قتلوا من العناصر التي انضمت لتنظيم الدولة في المناطق المشار إليها قتلوا على يد رفاقهم الذين عاشوا معهم الحصار في برزة، وانتفضوا منذ بداية الثورة، لكن انقسم هؤلاء، وباتوا بين "المرتدين والصحوات"، بحسب وصف تنظيم الدولة لهم، أو من "الخوارج"، كما يصف أعداء التنظيم عناصره.
فـ"أبو عمار" كان قد ارتدى حزاما ناسفا في ذلك اليوم الذي هاجم فيه جيش الإسلام، بمساعدة اللواء الأول، منطقة بساتين برزة، وتقابل مع صديقه السابق، الذي شاركه الحصار في برزة، وجها لوجه. لكن ما إن هجم أفراد الكتائب على أبي عمار حتى رمى نفسه بينهم وفجر الحزام الناسف الذي كان يرتديه، فقتل مع من كان يدعوه "صديقا" في السابق.
أما في حماة، وسط سوريا، فقد أعلن مطلع الشهر الجاري الدكتور غسان جاموس، طبيب الجراحة العظمية، عن بيعته لتنظيم الدولة.
وشرح الطبيب غسان، الذي عمل سابقا في مشفى حماة الوطني ثم انتقل للعمل في الميدانية بعد انطلاق الثورة، سبب مبايعة التنظيم؛ بالقول: "انظر إلى ما يسمى بالمناطق المحررة من أيدي النصيرية إلى الفوضى أو الائتلاف الذي لا تخفى عمالته، إلى من غلب الران على قلبه فأصبح لا يحل حلالا ولا يحرم حراما، وكيف اصطف من كانوا إخوة لنا في المنهج مع الكفار، ووجهوا حرابهم إلى صدور المسلمين، مستعينين بطيران الصليبين"، وفق ما كتبه جاموس على صفحته على "فيسبوك"، في إشارة لضربات التحالف الدولة ثم العملية التي بدأتها
المقاتلات الروسية.
وقبل عام تماما، أعلنت أستاذة الشريعة في جامعة الدمام، الدكتورة إيمان مصطفى البغا، بيعتها لتنظيم الدولة، بعدما تركت عملها في السعودية والتحقت بالتنظيم في الشمال السوري.
وكتبت البغا حينها على حسابها على "فيسبوك" تقول: "غبت عنكم؛ لأني كنت أبحث عن كهف آوي إليه، للنطق بكلمة الحق". وقالت أيضا: "القضية في جهاد الدولة الإسلامية: قضية منهج، منهجهم الصحيح لن يؤثر فيه الأشخاص على انتصار الحق وظهوره، ولو بدل الأمير البغدادي منهجه لبدلناه هو، وسيبقى المنهج الحق منارة المخلصين الذين تركوا الدنيا ومباهجها وأتوا ليلبوا واجب الجهاد في أحضان الموت".
ووالد إيمان هو الدكتور مصطفى البغا، أستاذ الشريعة البارز في دمشق، ولا يعرف له موقف تجاه ما يجري في سوريا. أما نجله أنس، فما زال في دمشق، كما يظهر على تلفزيون "سما" الموالي للنظام.