ما إن تبدأ وفود الحجيج تتقاطر إلى
مكة، حتى تجول في خاطر كل من وطئ ثراها حاجا في أعوام سابقة؛
ذكريات الرحلة، القلوب تتسارع نبضاتها شوقا والعيون تتلألأ دمعاتها حنينا والألسنة تلهج داعية بالعودة لأطهر بقاع الأرض؛ مكة المكرمة.
الحاجة أحلام فروانة "أم علي"، (50عاما) في كل مرة ترى فيها وفود الحجيج مكبرين مهللين، يزداد شوقها بالعودة، تقول لـ"
عربي21": "أشعر أني أُشاركهم المناسك بقلبي وروحي ودعائي".
لطائف الله تتجلى
أما عن ذكريات رحلتها فمغمورة بأحداث أيقنت معها معنى اللطيف الرحيم؛ وهي أم الشهيد محمد فروانة؛ أحد شهداء عملية الوهم المتبدد، والتي قادت إلى أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، أوضحت "كان من الصعب الحصول على الموافقة الأمنية لخروجي للحج"، مشيرة إلى أن عام 2009 كان العام الأول الذي يمنح فيه أهالي الشهداء مكرمة الحج بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات.
تضيف أم علي: "لقد حصلت وقتها على منحة للحج، فلم أصدق نفسي وسجدت لله شكرا"، موضحة أنها حينما وصلت البيت الحرام لم تصدق نفسها، ولم ولن تنسى لحظة رؤيتها الكعبة المشرفة للمرة الأولى في حياتها، وتمالكتها "رهبة وجلال" ودعت ربها أن يرد عليها "علي" المهاجر إلى النرويج، فكانت تلك الأيام، كما تؤكد، "أجمل أيام حياتي"، حيث توجت بلقاء ابنها "علي" في الحج.
أم علي، ملمة بالعلم والفقه الشرعي، أبت أن تحبس علمها في صدرها، وتؤكد أنها "منذ اللحظة الأولى لوصولي بدأت أتنقل كـداعية بين خيام الحجيج، ومن الطرائف التي لا أنساها أني ضيعت طريق بعثتي ودخلت خيام بعثات عراقية، وعدت بعدها من حيث أتيت برفقة أمن الحجيج".
وتقول عن أجمل لحظاتها التي قضتها في
الطواف، وهي تطوف مع والدتها العاجزة عن الحركة، لم ترغب "في تركها لأحد المطوفين، فتشعر بالأذى وآثرت أن أرد جزءا من فضلها".
نبضات الفرح
"
رحلة الحج تكتنفها الرهبة والجمال، وتخالطها الرغبة الجامحة في معرفة كل بقعة وطئ فيها سيدنا إبراهيم قدمه"، هكذا تحدثت لـ"
عربي 21" الحاجة فاطمة الزيني (70) عاما.
لقد خرجت الزيني، من مدينتها خان يونس جنوب القطاع بمفردها دون محرم بعد أن توفي زوجها وتعذر ماليا على أبنائها الثلاثة مصاحبتها، تقول: "عوضني الله بصحبة طيبة، أبناء وبنات، لم يتركوني لحظة، وقاموا على رعايتي حتى في مرضي هناك".
وتضيف "كانت المرة الأولى التي أحج فيها تملكتني الرهبة حتى إذا ما أبصرت الكعبة بأم عيني أجهشت بالبكاء، ودعوت الله كثيرا واستغفرته طويلا"، وتتابع حديثها، رؤية الكعبة للمرة الأولى عن قرب تمنح الإنسان شعورا لا يمكن وصفه، تمتزج فيه نبضات الفرح وعظمة المكان.
الحاجة الزيني، تعاني من مشاكل "الدوالي" في قدميها، لكن بمجرد وصولها إلى مكة لم تشعر بالألم بل كانت أكثر نشاطا - كما أخبرت "
عربي21"، لافتة إلى أنها على الرغم من شدة الزحام في الطواف إلا أنها أدت المناسك على قدميها، بصحبة أحد الحجاج الذين عملوا على صحبتها منذ اللحظة الأولى في رحلتها.
مواقف لا تنسى
ولعل أجمل ما في رحلة الحج لدى الزيني، مناسك المبيت في منى، تقول: "كانت الفرصة سانحة لتلاوة القرآن والذكر"، منوهة أن أمّيتها لم تقف عائقا أمامها، فقد منحها الله موهبة الحفظ، وتؤكد أنها حفظت المناسك والأدعية والأذكار وسور القرآن القصيرة من متابعتها للقنوات الدينية.
لم تنسى الحاجة فاطمة الزيني، مفاجأة أعدتها ابنتها لها، بأن نسقت مع ابن شقيقها بأن يلقاها في الحج، وتحكي: "لم أره منذ كان طفلا، وحين رأيته رأيت فيه شقيقي رحمه الله، كانت منحة ربانية سعدت بها كثيرا".
وعلى صعيد المناسك، تستذكر الحاجة رحلة الولوج من منى إلى عرفات، واصفة الرحلة أنها "كانت عظيمة بروحانياتها"، وتضيف: "كنا نشعر بالقرب من الله، وقلوبنا توحد الله بخشوع ".
وبقيت ذكريات الحج محفورة في قلوب وعقول من أدّو المناسك، يصوغونها حكايات ودروس إيمانية لمن سيعقبونهم، ليستمر هذا الركن طموحا للجميع لما فيه من تزكية للنفوس وراحة للقلوب.