يقول المؤرخ المسلم ابن الأثير في كتابه "الكامل" عن الأحداث التي تلت فتح القدس واسترداد صلاح الدين للأقصى:
"لما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمون فيه الجمعة، ومعهم صلاح الدين، وصلى في قُبّة صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يُعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصُنّاع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه ليُنصّب بالبيت المُقدس، فعمله النجّارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله.
فأمر (أي صلاح الدين) بإحضاره، فُحُمل من حلب ونُصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات نور الدين وحُسن مقاصده، رحمه الله".
هذا السلطان العادل (نور الدين محمود) أستاذ صلاح الدين الأيوبي، كان يعيش على حلم تحرير الأقصى، وصنع منبرا يليق بمكانته، لكي ينقله إليه بعد تحريره من أيدي الصليبيين، ويخطب عليه في المسلمين، لكن المنيّة قد وافته قبل تحقيق حلمه.
* تلك هي النفوس التي أدركت ما يعنيه الأقصى، همٌ سرى في دماء المسلمين، لما سمعوا آيات القرآن تتلى على أسماعهم: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى}.
عندما أدركوا الحكمة من الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس ليصلي بالأنبياء، ثم يعرج به إلى السماء، ولم يعرج به مباشرة من المسجد الحرام، حيث كانت الرحلة إيذانا بانتقال الزعامة في هذه البقعة إلى المسلمين، فالأرض {لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}.
من أجل مسرى الرسول وأولي القبلتين وأحد المساجد الثلاث التي تُشدُّ إليها الرحال، سيَّر الفاروق عمر كتائب التوحيد لتحريره، وقطع المسافات الشاسعة لتسلم مفاتيح القدس.
* من أجل الأقصى، لم ترتسم الابتسامة على ثغر صلاح الدين الأيوبي، فيقول: كيف أضحك والأقصى أسير؟، فوحّد الصفوف وقادها إلى النصر عبر حطين، وعاد الأذان يشُقّ السكون بعدما غاب عن الأقصى قرابة مائة عام.
فلما طال الأمد، ووُضعت صورة الأقصى على رفٍّ قديم في ذاكرة القوم، لم يعد لصرخات الأقصى مجيب.
* يشهد الأقصى مؤخرا ذروة التصعيد
الإسرائيلي المحموم، بهدف فرض واقع جديد في ساحات الأقصى، من التقسيم الزماني والمكاني للمسجد بين المسلمين واليهود، تمهيدا لهدمه وبناء الهيكل المزعوم.
وفي ظل التصعيد الإسرائيلي في المسجد الأقصى، يقف الغرب موقف المشاهد، ويطلق على استحياء دعواته للتهدئة، طالما أن الأمر لا يتعلق بمهاجمة دور عبادة لليهود أو المسيحيين.
فأعاد المجتمع الدولي إلى الأذهان موقفه الصارم الحازم ضد طالبان، عندما قامت الحركة في أفغانستان بهدم تمثال بوذا، الذي كان يعبده بعض السائحين، حينها انطلقت صرخاتهم بدعوى المحافظة على التراث الإنساني.
* وأما حكام العرب، فكما عودونا لا يملكون شيئا سوى الشجب والاستنكار، وإجراء الاتصالات لمناقشة الوضع الراهن، دون اتخاذ خطوات صارمة جدية تجاه الاعتداءات السافرة على الأقصى.
وبين هؤلاء وهؤلاء يقف المرابطون في الأقصى بصدور عارية، يواجهون آلة البطش الصهيونية، فالرجال
والنساء والأطفال والشيوخ على السواء، ينافحون عن مسجدهم، دون أي دعم خارجي.
أقول (بغير أن يتملكني اليأس والقنوط)، ليس هناك ما يُعوّل عليه بعد الله سوى هؤلاء الذين يرابطون في الأقصى، وأما أن يحدث تدخّل عربي إسلامي أو دولي لوضع حل جذري، فهو أمر محال في هذه الفترة.
إذن، لماذا تكتبين في تلك القضية؟
أقول إن تحرير الأقصى لن يكون إلا إذا صارت هذه القضية هما سائدا، ورأسا لقائمة الاهتمامات لدى المسلمين.
ولذا ينبغي أن يُبعث همّ تحرير الأقصى من جديد، بعدما تكالبت الهموم والأزمات على الأمة فأنستها
الأقصى، وأشغلتها عن التفكير في الدفاع عنه.
ينبغي أن نحرك هذه القضية، ونجعلها حديث الساعة التي لا تنتهي، على المنابر، والمقاهي، في المدارس والأندية، في المنزل والعمل، بين الزوجين، والأشقاء، والأصدقاء.
* بعثُ هذا الهمّ ليس مجرد حل شكلي يقوم به العاجزون، إنه صياغة وعي، وتشكيل رأي عام، إذا ما نجحت الشعوب في الاصطباغ به، حينها ستسلك القرارات السياسية اتجاها آخر.
فجميع الإجراءات التي يقوم بها الاحتلال تجاه الأقصى، من حوادث إحراق، ومحاولات لخلخلة بُنيانه وأساسه بالتحليق المستمر للطيران، والحفريات المتتابعة تحت الأقصى، والاقتحامات المتكررة من الجماعات والعناصر المتشددة بتأمين الشرطة الإسرائيلية، كل هذه الإجراءات، يراد منها (قتل) ذلك الهمّ في نفوس المسلمين مع إلفه وكثرة مشاهدته.
فجاءت هذه الانتهاكات الأخيرة، في ظل وجود الفوضى التي عمت الأمة، والأزمات التي اندلعت فيها، فكان التوقيت مناسبا لقطع أشواط وخطوات واسعة على طريق هدم الأقصى.
ليست
المظاهرات والوقفات الاحتجاجية وحدها تصلُح حلا، أهم من ذلك حقن تلك الجماهير المُغيّبة بجرعات يقظة فكرية، يتولى مسؤوليتها قادة الرأي والنُّخب من المثقفين والكُتاب والصحفيين والمُربّين.