عندما نتأمل -ونحن في القرن الهجري الخامس عشر- مبادئ دستور دولة النبوة، صحيفة دولة المدينة المنورة، الذي وضع سنة 1 هـ، 622 م- نجد الكثير من المبادئ الهادية للواقع الذي نعيش فيه.
فالتطور لا يعني إلغاء كل الماضي، وإنما تستصحب الثوابت الصالحة، ويغير القديم الذي لم يعد صالحا للأفق الجديد، فهذا الدستور لم ينسخ -جملة وبإطلاق- كل أعراف الجاهلية، بل أقر منها ما هو صالح لا يتعارض مع روح الشريعة، ولا يتصادم مع التطور الجديد، فالقبائل التي دخلت في التنظيم الجديد، وغدت لبنات في "الرعية السياسية" للدولة الجديدة، ظلت تتعامل في الديات وفق نظامها القديم.
وإذا كان هذا الدستور قد مثل "القانون الأعلى" الذي نظم "الواجبات" على الرعية، والذي ضمن ما لها من "حقوق"، فإنه استثنى "الظلم والإثم" وقرر أن لا حماية لظالم أو آثم حتى ولو كان من الرعية التي ارتضت الحكم بهذا الدستور، فنص على "أنه لا يحول هذا الكتاب –الدستور- دون ظالم أو آثم".
وإذا كانت "يثرب" –المدينة- قد مثلت وطن الدولة التي حكمها هذا الدستور، فلقد قرر هذا الدستور أن هذا الوطن حرم آمن لرعية هذه الدولة، وقرر في ذات الوقت، وفي نفس النص، أن لا حصانة لظالم أو آثم، حتى ولو كان معتصما "بيثرب"، عضوا برعية دولة هذا الدستور، و"أنه من خرج آمن ومن قعد آمن في المدينة، إلا من ظلم أو أثم".
وإذا كان تطور المجتمعات، وتعقد شئون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد فرض ويفرض التطور في الآفاق وفي الصياغات اللازمة للدساتير المعاصرة، فإن قراءة هذا الدستور الأول للدولة العربية الإسلامية الأولى من الضرورات النافعة للأمة، رغم تجاوز واقعنا للملابسات التي قننها ذلك الدستور.
لقد حدد لنا هذا الدستور -اقتداء بالقرآن الكريم- أن المرجع عند الاختلاف هو كتاب الله وسنة رسوله، ففيهما "المبادئ" و"الفلسفات" و"الأطر" الحاكمة للواقع المعيش والمتغير دائما وأبدا والمتطور باستمرار، فتغير الواقع لا يعني تغير "فلسفة المرجعية"، وتطور القوانين لا يعني تغير "فلسفة التقنين والتشريع"، ولذلك نص هذا الدستور على المرجعية الإسلامية الثابتة للدولة المدنية، فجاء فيه: "وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد".
فالدولة الإسلامية قائمة على التنوع والتعدد في ديانات الرعية والأمة السياسية، ومن ثم فإنها ليست دولة دينية بالمعني الكهنوتي الكنسي، الذي تستمد فيه الدولة سلطانها من السماء، دون الأمة، والتي تحكم فيها هذه السلطة الجماعة المؤمنة فقط، وإنما -هذه الدولة الإسلامية- مدنية، الأمة فيها مصدر السلطات، شريطة أن لا تخرج هذه الأمة عن فلسفة الإسلام في التشريع والتي هي كليات عامة، وقواعد جامعة، أي أن السيادة في هذه الدولة هي للشريعة والسلطة فيها للأمة، ولا عصمة فيها للسلطان، لأن الأمة -المستخلفة في إقامة الشريعة- هي التي تختار الحاكم وتراقبه وتحاسبه وتعزله عند الاقتضاء، بينما الدولة الدينية مستخلفة عن السماء، ولا مكان فيها للأمة وسلطانها على الإطلاق.