الشائع في بعض الدراسات: أن الأوربيين هم الذين سبقوا إلى الكتابة في "المنهج"، فجعلوا منه علما، وأفردوه بالتأليف.
وتنسب الريادة في ذلك إلى الإنجليزي، فيلسوف الوضعية "روجر بيكون" (1214 – 1292 م)، وكثير من الباحثين العرب يسلّمون بهذا القول، بينما يتحفظ البعض تحفظا جزئيا، فيلفتون النظر إلى أن العديد من علماء العرب والمسلمين قد كتبوا في "المنهج" وصاغوا العديد من قواعده، ووضعوا الأصول النظرية للكثير من عناصره، وإن لم يفردوا له تأليفا خاصا به، ولم يجعلوه علما مستقلا عن غيره من العلوم.
ويذكرون في هذا الباب سبق الجاحظ (163 – 255 هـ، 775 – 868 م) للكتابة في "الشك المنهجي" - كعلم يجب تعلمه - وكيف كانت له الريادة.
ثم جاء من بعده حجة الإسلام أبو حامد
الغزالي (450 - 505 هـ، 1058 - 1111 م) الذي صاغ تجربته في الشك، ومنهج التعامل معه، بكتابه "المنقذ من الضلال" والذي أثر عنه قوله: "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والضلال"!!
وكلاهما - الجاحظ والغزالي - أسبق من الفيلسوف الفرنسي "
ديكارت" (1590 – 1650 م) بعدة قرون.
لكن المتأمل في تراثنا العربي الإسلامي يلحظ محاولات شبه مكتملة في "المنهج" على نحو خاص ومفرد - قبل أن تطرق الحضارة الأوروبية هذا الفن بعدة قرون - فعالم اللغة وفيلسوفها والناقد الأدبي "ابن جني" (330 - 392 هـ، 942 - 1002 م) له في كتابه الفذ "الخصائص" صفحات وصفحات تطالعنا بعناصر منهجه في الدراسات اللغوية، والشهرستاني (479 - 548 هـ، 1086 - 1153 م) - صاحب كتاب الملل والنحل" - يطالعنا - عند دراسته لانقسام الأمة إلى فرق ومذاهب - بعناصر منهج متميزة ومتكاملة - وإن لم تكن جزئية - في دراسة هذا الموضوع بالذات.
بل إن في تراثنا العربي الإسلامي ما هو أكثر من هذا، وما هو أقرب إلى إفراد "المنهج" بالتأليف المستقل فيه، وكمثال على ذلك، كتاب فيلسوف الفقهاء وفقيه الفلاسفة أبو الوليد
ابن رشد (520 - 595هـ، 1126- 1198 م) الذي سماه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال".
ففي هذا الكتاب - ذي الحجم الصغير - جمع ابن رشد عناصر منهجه الفلسفي، حتى لنكاد - دون مبالغة - أن نقول إنه كتاب في "المنهج" الرشدي!
ولقد كان ضروريا لابن رشد أن يصنع ذلك، لأنه قد طرق في الفكر بابا جديدا، بل وغريبا عن الكثير من الفلاسفة، في العديد من الحضارات، وذلك عندما اقتحم - في أصالة وموضوعية - ميدان التوفيق بين "الدين" وبين "
الفلسفة" - أي بين "الشريعة" و"الحكمة" - وكان الكثيرون يحسبون أن لا مكان للتوفيق بينهما!
وابن رشد، بهذا العمل الذي أنجزه في هذا الميدان، قد كان ولا يزال علامة بارزة تلفت النظر إلى الطابع المتوازن في حضارتنا العربية الإسلامية، الذي يميزها عن حضارات أخرى كثيرة، عندما تتخذ الموقف الذي يجمع بين ما تعده حضارات أخرى نقائض ومتضادات لا يمكن الجمع بينهما!
ولجدة المحاولة بالنسبة للكثيرين، ولصعوبة المبحث، كان لا بد من أن يعرض عناصر "منهجه" في هذه المحاولة الكبرى، فكان كتابه "فصل المقال".
وفي هذا الكتاب يتحدث ابن رشد عن: موقف الدين من دراسة الفلسفة، وعن أهمية النظر الفلسفي وضرورته للإنسان، وكذلك عن شروط هذا النظر الفلسفي، وعن مستويات الناس الفكرية، وطريق كل مستوى إلى تحصيل المعرفة، وبلوغ اليقين، وعن علاقة الحكمة (الفلسفة) بالشريعة (الدين)، وعن التأويل وقوانينه، ثم يقدم عناصر نظرية متكاملة في المعرفة، ومن خلال حديثه عن "العلم الإلهي" و"العلم الإنساني" والفرق بينهما، حتى ليمكن أن نعد رسالته الصغيرة "ضميمة في العلم الإلهي" رسالة في المنهج - منهج النظرية الإسلامية في المعرفة.
فجدير بفيلسوف قرطبة أن يحسب له هذا السبق إلى التأليف المفرد في المنهج، وجدير بنا أن نمعن النظر في هذا الميدان، فلربما وجدنا تآليف في المنهج سبقت في تراثنا مؤلفات ابن رشد في هذا الميدان، بل إن كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" هو كتاب في مناهج فلسفات اختلافات الفقهاء بامتياز، كما أن كتاب الغزالي "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" هو الآخر نموذج في هذا الميدان.