بدأت متاعب حركة حماس مع السلفية الجهادية على خلفية قرار حركة حماس المشاركة في الانتخابات التشريعية التي نظمت في 25 كانون ثاني/ يناير عام 2006، والتي أسفرت عن فوز صريح لحركة حماس على حساب الفصائل الفلسطينية التقليدية وفي مقدمتها حركة فتح، ولم تكن السلفية الجهادية تتمتع آنذاك بحضور لافت في قطاع غزة، إلا أنها برزت كردة فعل تجاه الإيديولوجية السياسية لحماس التي تجيز المشاركة في العملية الديمقراطية التعددية والانتخابات. وقد تنامت السلفية الجهادية عقب سيطرة حماس العسكرية على قطاع غزة بعد صراع مسلح مع حركة فتح في 14 حزيران/ يونيو 2007، والانفراد بالسلطة، حيث تنامت مشاعر الاحتجاج السلفي تجاه حماس بحجة تخليها عن منظومة "تطبيق الشريعة" التي تقع في صلب أهداف حماس كحركة تنتمي إلى فضاء "الإسلام السياسي" وممثله الأبرز "الإخوان المسلمون".
عقب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وإعلان الخلافة في 29 حزيران/ يونيو 2014، وبعد أن سيطر على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وانتشار ولاياته في دول عديد وخصوصا "ولاية سيناء"، برز نهج جهادي عالمي يستند أساسا إلى احتكار تمثيل الهوية الإسلامية السنية، الأمر الذي عزز من متاعب حماس أمام سردية جهادية صارمة وجدت لها صدى في غزة عبر مجاميع وجماعات سلفية جهادية لم تعد تقتصر طموحاتها على أطروحة تحرير فلسطين فقط، وإنما تتسع بالعمل على وضع الشريعة كحاكمة على الفور دون تراخ، وتشمل معاركها ودائرة أعدائها "اليهود والصليبيين والشيعة الصفويين والمرتدين".
سردية الجماعات الجهادية في غزة بدأت تتماهى مع إيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية، فأحد أقدم الجماعات الجهادية في القطاع وهي "جيش الإسلام" بزعامة ممتاز دغمش أصدرت في 7 تموز/ يوليو 2015، شريطا مصورا بعنوان "بل ملة إبراهيم"، أطلقت على زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي، وصف "خليفة المسلمين"، واعتبرت حكومة "حماس"، أنها "طائفة ردة وكفر"، بسبب "تحكيمها للقوانين الوضعية، وموالاتها للمشركين" والتزامها بالديمقراطية، وركز الفيديو على قضية الصحفي البريطاني آلن جونسون الذي اختطفته جماعة "جيش الإسلام" لمدة 3 شهور في مكان إقامتها بحي "الصبرة" في غزة، والذي حرره جهاز الأمن الداخلي في حكومة "حماس"، في اشتباكات قتل فيها 11 من "جيش الإسلام"، وكانت الجماعة مقربة من حماس وشاركت معها في اختطاف الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط عام 2006، إلا أن حركة حماس تبنت نهجا مغايرا ودخلت في صدام مسلح مع جيش الإسلام بعد أن أطلق أحد منتسبي الجماعات الجهادية النار على شرطي من حماس، حيث تعاملت حماس بصورة حازمة مع جيش الإسلام في أيلول/ سبتمبر 2008، في عملية أسفرت عن مقتل أحد عشر شخصا وجرح عشرات آخرين.
لقد تطورت علاقة حماس مع الحركات الجهادية من الاحتواء إلى المواجهة بصورة متدرجة؛ ودخلت مرة أخرى في صراع دموي مع جماعة "جند أنصار الله" بزعامة أبي النور المقدسي الدكتور عبد اللطيف موسى الذي أعلن عن قيام إمارة إسلامية في رفح تمت تصفيتها بقسوة في 4 آب/ أغسطس 2009، وأسفرت المواجهة عن مقتل أكثر من 20 شخصا، وجرح أكثر من 100.
خلال الأشهر الأخيرة تبنت حماس نهجا أكثر تشددا تجاه المجاميع السلفية الجهادية في محاولة لوأدها في مهدها، وشنت حملة اعتقالات واسعة منذ نيسان/ إبريل الماضي، بعد أن أصدرت جماعة أطلقت على نفسها "أنصار الدولة الإسلامية في بيت المقدس" في 9 نيسان/ إبريل 2015 عبرت فيه عن تأييدها لتنظيم الدولة الإسلامية، كما قامت حماس بتشديد الخناق والمراقبة على المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي دفع بعض الجهاديين إلى القيام بعدد من العمليات الثأرية، ومنها تفجير عبوة ناسفة على مقربة من مقر الأونروا، وقالت الجماعة في بيانها إن قوات أمنية تابعة لحركة حماس، هدمت في ساعة متأخرة مسجد المتحابين الذي يرتاده أنصارها وسط قطاع غزة، وجاء في البيان: "أمام هذا التغول الحمساوي الجديد فإننا نجدد بيعتنا وولاءنا ونصرتنا لأمير المؤمنين أبي بكر البغدادي القرشي الحسيني حفظه الله ونقول له: أبشر شيخنا فإن قلوب أنصار الخلافة في فلسطين تحترق شوقا لالتقاء الزحوف واجتماع الصفوف تحت راية الخلافة لنقاتل اليهود وحلفاءهم والطواغيت وأنصارهم جميعا كما أمر ربنا سبحانه"، وكانت هذه الجماعة قد أصدرت بيانا في وقت سابق تمهل فيه حركة حماس، التي وصفتها بـ"حكومة الردة"، 72 ساعة للإفراج عن "معتقلين سلفيين محتجزين لديها"، وقد تصاعدت حدّة المواقف في مطلع شهر أيار/ مايو، بعد انتهاء مهلة الـ72 ساعة واستمرار حملة التوقيفات، حيث رد أنصار الدولة الإسلامية في غزة بشنّ هجمات ضد حماس، منها هجوم بقذائف الهاون على قاعدة تابعة لكتائب القسام جنوب غزة.
دخلت العلاقة بين حماس والجماعات الجهادية الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية منحى أكثر خطورة بعد مقتل يونس الحنر، الذي تؤكد الرواية الجهادية على تصفيته بدم بارد على يد قوات حماس، وبحسب عائلته فإن الحنر كان في السابق من عناصر الجناح العسكري لحماس "كتائب عز الدين القسام" وتركها قبل عامين للانضمام إلى فصيل جديد موال لـ "تنظيم الدولة الإسلامية"، حيث كان مختبئا في بيته خائفا من الاعتقال، أما رواية "حماس" ققالت إنه قتل في بيته بالشيخ رضوان وبحوزته متفجرات وحزام ناسف، وعندما طلب منه الاستسلام حاول تفجير نفسه وقتل في اشتباك مع قوات أمن "حماس"، وبصرف النظر عن صدق الروايتين فقد كشفت الحادثة عن تدهور خطير في العلاقة بين حركة حماس وتنظيم الدولة، إلا أن الأكثر خطورة هو تسرب عدد من أعضاء حماس إلى صفوف السلفية الجهادية بنسخته الأعنف ممثلا بالدولة الإسلامية، إذ لا يقتصر الأمر على يونس الحنر بل تضم القائمة شخصيات قيادية عديدة عملت في صفوف "كتائب القسام" بدءا من أبو عبدالله المهاجر إلى أبو البراء صالح وصولا إلى عدنان مياط ومحمود طالب وغيرهم.
ولم تقتصر المواجهة وتصعيد التهديدات بين حماس والدولة الإسلامية في داخل قطاع غزة بل امتدت إلى ساحات خارجية، فقد أصدر تنظيم الدولة الإسلامية من سوريا شريطا مصورا في 30 حزيران/ يونيو 2015، يظهر فيه عدة أشخاص يهددون حركة حماس، حيث توعد خلاله التنظيم حركة حماس بقوله: "إلى طواغيت حماس بإذن الله سنفعل بكم في غزة كما فعلنا بكم في مخيم اليرموك، وستشهد غزة دماء وأشلاء .. أنتم زبد زائل يذهب مع زحفنا وستحكم الشريعة في غزة رغما عنكم"، وكان تنظيم الدولة الإسلامية قد دخل في مواجهة مسلحة مع جماعة "أكناف بيت المقدس" المحسوبة على حماس في مخيم اليرموك أسفرت عن طرده من المخيم.
لقد ساهمت عملية عزل ومحاصرة وإضعاف حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية في بروز سردية إسلامية فلسطينية أشد صلابة وأكثر تمسكا بحدود العلاقة الصراعية الوجودية مع المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، فالتعامل مع حركة "حماس" باعتبارها حركة إرهابية ساهم في تصاعد نفوذ الجهادية العالمية في فلسطين، ويبدو أن رفض التعاون مع حركات أكثر براغماتية يقود دائما إلى بروز أجيال أكثر راديكالية، كما حدث الأمر سابقا مع منظمة التحرير الفلسطينية التي عوملت كمنظمة إرهابية، الأمر الذي أفسح المجال لسيطرة الحركات الجهادية الوطنية ممثلة بحركة حماس والجهاد الإسلامي، واليوم يتكرر ذات السيناريو الذي حدث مع المنظمة مع حركة حماس وحكومتها المنتخبة ديمقراطيا من الشعب الفلسطيني.
لقد عملت تكيّفات حركة حماس مع البيئة الفلسطينية والإقليمية والدولية المعقدة على خلق معادلة صعبة انعكست بتفتيت إيديولوجيتها الصلبة المتعلقة بنهج المقاومة، وأضعفت هيكليتها التنظيمية المتماسكة، فقرار الحركة المشاركة في الانتخابات الوطنية عام 2006، أدى إلى خسارتها بعض أعضائها المعارضين للنهج الديمقراطي الجديد كأداة للتغيير، وقد تطور لاحقا عقب سيطرتها على القطاع 2007 وبروز نهج براغماتي يدشن لعمليات هدنة طويلة مع إسرائيل، حيث بدأ بعض الأفراد الأكثر راديكالية في صفوف الجناح العسكري "كتائب عز الدين القسام" يتسربون إلى صفوف التيارات السلفية الجهادية العالمية.
الانقسام الفلسطيني بين الضفة والقطاع ووجود حكومتين أدى إلى تنامي الجهادية العالمية على الجانبين، فتعامل السلطة الفلسطينية مع النشطاء والمقاومين باعتبارهم "إرهابيين" وإلقاء القبض عليهم والتنسيق الأمني الكامل مع إسرائيل في الضفة الغربية التي عملت من دون رادع، على تكثيف حملات الاعتقال، وسياسة إسرائيل بمصادرة الأراضي، والمضي في مشاريع "التهويد" التي تنفّذها في القدس، شكّلت عاملا إضافيا لصعود الميول الجهادية العالمية في الضفة الغربية، كما ساهمت محاولة حماس بضبط سلوك المقاومة وعملية اعتقال الجهاديين الجدد، والدخول في صراع مسلح مع بعض الحركات الجهادية الصاعدة كجماعة "أنصار جند الله" عام 2009، في تنامي الجهادية العالمية في غزة.
في حقبة الثورات المضادة على منجزات الربيع العربي، وفشل مسارات المفاوضات العبثية مع المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، ودخول المقاومة في مسارات مسدودة وغياب التوافق الفلسطيني والسياسات العدوانية الإسرائيلية، أصبح للجهادية العالمية مكان في فلسطين، إذ باتت شبكات الجهاديين منتشرة وأصبح نهج مجاميع الخلايا أكثر انتشارا واجتهادات الجهاد الفردي ناجزة، فقد كشفت مجموعة "يطا" الجهادية عن بروز تنسيق مع المجموعات الجهادية العالمية، حيث تبنّى تنظيم "مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس" الذي ينشط في غزة وسيناء المسؤولية عن هجوم الضفة الغربية الذي نفّذته مجموعة يطا، في بيان صادر بتاريخ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، أعلن عن انطلاق مرحلة جديدة من الجهاد في الضفة الغربية سيتم خلالها استهداف إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي اتّهمها بالخيانة.
وكان مجلس شورى المجاهدين قد تأسس في 18حزيران/ يونيو 2012، وهو عبارة عن ائتلاف يضمّ العديد من التنظيمات الجهادية التي ظهرت منذ سيطرة حماس على غزة في العام 2007، ثم انتشرت في سيناء، ومن أهم مكوناتها: "جيش الإسلام" و"جيش الأمة" و"جماعة التوحيد والجهاد" و"جند أنصار الله"، وكانت قبل ذلك قد ظهرت جماعة "أنصار بيت المقدس" إلى العلن في 5 شباط/ فبراير 2011، بيعة أنصار بيت المقدس لتنظيم الدولة في تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، والإعلان عن تأسيس "ولاية سيناء"، وقد باتت هذه الجماعة أحد أهم مصادر القلق لدى مصر وإسرائيل وحماس، عقب تنفيذها لسلسة من العمليات الكبرى في مصر، واستهدافها لإسرئيل بأعداد من الصواريخ، واستقطابها لعناصر فلسطينية من غزة.
على مدى سنوات نجحت السلطة الفلسطينية في الضفة نسبيا في تفكيك البنية التحتية العسكرية لحركة حماس، لكنها أخفقت في بناء نموذج مقنع في الحكم، فقد تدهورت الظروف الاجتماعية والاقتصادية خلال الأعوام الماضية، الأمر الذي شكّل عاملا إضافيا في خلق بيئة حاضنة للجهادية العالمية، كما أن مفاوضات السلام التي طرحت كخيار استراتيجي وحيد في إطار حركة فتح فشل في تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية، وعلى الجانب الآخر كانت سياسات حماس الواقعية في غزة تعمل على تعزيز أطروحة الأجنحة الأكثر راديكالية، ويبدو أن جهود الوساطة بين حماس والسلفية الجهادية في غزة التي أعلن عنها مؤخرا بهدف رأب الصدع الناشئ بين المقاومة والتنظيم السلفي الجهادي الموالي لتنظيم "الدولة الإسلامية" لن تصمد طويلا.