تساءلنا في السابق عن أسباب فشل سياسات استئصال الإسلاميين والتيارات السياسية الدينية، وتناسب قوة الحركات الإسلامية طردياً مع شدة الحملات التي نظمت لقمع هذه التيارات. فالدول الرائدة في التصدي للإسلام ودوره في الحياة العامة، وعلى رأسها تركيا وإيران ومصر وسوريا وتونس، هي التي تشهد اليوم أكثر الحركات الإسلامية تجذراً وشعبية.
يعود هذا أساساً إلى نوعية من تصدى لمهمة الاستئصال ومنهجيتها. بداية نجد الشخصيات والجماعات التي تصدت لمهمة «التحديث» في تلك البلدان كانت من القادة العسكريين من ذوي الحظ المتواضع من التعليم عموماً، والعلم الديني خصوصاً.
وبالتالي لم تكن لدى هؤلاء قدرة على الدخول في حوار مع رجال الدين أو إقناع عوام المتدينين بمنطقهم العلماني. فلم يعتبر أحد أتاتورك أو عبدالناصر أو شاه إيران أو بورقيبة أو
صدام أو الأسد وأمثالهم حجة في أمر الدين.
ورغم أن السيسي يدعي –أو يدعي له بعض أتباعه- رؤى دينية وحضرات وكرامات، بل ومضاهاة للنبوة، فإن مثل هذه الدعاوى هي مادة للتندر والسخرية عند الغالبية، أكثر منها مصدراً لسلطة دينية. وقد انتهج هؤلاء لهذا السبب نهج العنف والقمع وإسكات الأصوات المخالفة وفرض منهجهم، كما فعل الشاهة وأتاتورك في فرض هؤلاء نزع الحجاب أو تحريمه.
قاموا كذلك بإغلاق المدارس الدينية واعتقال العلماء وحتى قتلهم. ولم يختلفوا في هذا عن السلطات الاستعمارية في تعاملها مع الدين من خارج إطاره وخطابه ومؤسساته، بل كانوا أسوأ، لأن الاستعمار كان أكثر قدرة على التوصل لتفاهمات مع القيادات الدينية، ولم يتدخل في خصوصيات الناس.
وكانت النتيجة هي تغييب الخلاف وليس حسمه. فقد بقي المتدينون على تدينهم، ولم يقبلوا بأي سلطة دينية لهذه القوى السياسية المتنفذة، رغم سطوتها واستئثارها بالموارد.
من جهة ثانية، فإن هذه القيادات لم تقدم نموذجاً مثالياً بديلاً للرؤى الدينية التي أسكتت أصحابها أو قمعتهم. بل بالعكس، جسدت نماذج قبيحة في الممارسة السياسية. فالأنظمة المعنية كانت –ولا تزال- تعاني من إفلاس سياسي، حيث فشلت، رغم استمرار بعضها في الحكم لأكثر من سبعة عقود، في استمالة الجماهير أو إلهامها. وقد مارس كثير منها التعذيب والبطش والإبادة الجماعية، كما مارس البعض الفساد. وكثير منهم جمع الحسنيين، فعذب وقتل، وفسد وأفسد.
وبينما تمسح البعض بشرعية مقاومة الاستعمار والحفاظ على كيان الدول واستقلالها، اعتبر آخرون الغرب نموذجهم الأعلى، ورأوا في السمع والطاعة لمراكز صنع القرار هناك غاية الإحسان. وهناك أيضاً من جمع الحسنيين، فلبس رداء المقاومة حتى أبلاه، ثم انقلب إلى رداء الطاعة والولاء يرفل في حلله. ومنهم آخرون يلبسون رداء المقاومة ورداء التبعية مساءً، شأن النظام السوري وحكام بغداد اليوم، الذين يبيت أحدهم في طهران ثم يكون مقيله في واشنطن.
فلا عجب إن نفرت الأجيال الحديثة من كل هؤلاء، وأقبلت على الحركات الإسلامية، ربما تحديداً، لأنها نقيض هذه البشاعة من فساد واستبداد ونفاق وإجرام.
ولكن يبقى التساؤل المهم هو: من المراد استئصاله ومن هو المستأصِل؟ فهذا هو لب المسألة. فالمطلوب استئصاله ليس أشخاصاً بعينهم، ولا حتى حركة بعينها، وإنما هو فهم لمقتضى الإسلام في هذا الزمان، يجد قبولاً متزايداً من الناس.
وقد برز هذا الفهم لمعالجة أزمة الفهم التقليدي للدين الذي لم يعد قادراً على الصمود أمام الحداثة، وكمنافس للتوجه العلماني الذي رأى مقاربة الحداثة من دون الرجوع إلى الدين، سنة أتاتورك وبورقيبة وشاه إيران ومن سار على نهجهم. وقد تطور هذا النموذج لفهم الإسلام على يد قادة (البنا، المودودي، قطب، إلخ) ولدوا في مطلع القرن الماضي، رحلوا (أو رُحِّلوا) مع جيلهم عن هذه الفانية، وجاءت بعدهم أجيال أخرى لم تعرفهم إلا سماعاً.
وهذا يعني أن إبادة الجيل الحالي من الإسلاميين، كما يسعى لذلك البعض في مصر وغيرها، لن تحل المشكلة. فلا أحد يعرف من سيأتي بعد هؤلاء. وقد ظل أهل الحكم في مصر يروجون منذ أيام المخلوع مبارك أن حركة الإخوان المسلمين هي لب المشكلة، وأن كل تلك الحركات خرجت من «عباءتها». وهذا غير صحيح بالقطع. فحركة الإخوان كانت قد غيبت منذ عام 1955، وقد اعترف أيمن الظواهري وغيره بأنهم لم يلتقوا أيا من قيادات الإخوان حينما بدأوا في تبني منهجهم الجديد.
بل إن حركة الإخوان هي التي استفادت من تيار الشباب الذي نشأ في غيبتها، واستمالت بعضهم حتى تقوي صفوفها. وقد غضب بعض منتسبي هذه الجماعات حينما علموا أن قياداتهم عقدت صفقات مع حركة الإخوان التي اعتقدوا أن منهجها المهادن هو الذي سمح لأنظمة الفساد بالبقاء. وقد كتب الظواهري في هجاء الإخوان ما لم يكتبه مالك في الخمر. وبالتالي يمكن أن يقال إن تغييب حركة الإخوان هو الذي ولد الحركات المتطرفة، وليس حضورهم.
ولكن حتى لو صح المزعم الباطل بأن حركة الإخوان هي التي فرخت الجماعات الإسلامية والقاعدة والدولة الإسلامية وغيرها، فهذا يثبت فشل منهج الاستئصال. ذلك أن النظام المصري قد أعدم قيادات الحركة في أعوام 1955 و 1966، وسجن وشرد من بقي، وحظر كل نشاط لها. فإذا كانت بعد كل هذا قادرة على البقاء والتوسع، بل كذلك على إنتاج نماذج جديدة بانتظام، فهذا دليل على عدم جدوى سياسات القمع، إلا بغرض التشفي.
وهذا لا يعني أن حركة الإخوان المسلمين وتجلياتها خالية من العيوب. فليس هناك شك في أن حركة نشأت قبل قرابة من الزمان للتعامل مع تحديات الحداثة لا يمكن أن تكون مؤهلة للتعامل مع واقع اليوم بأدوات وأفكار تلك الأيام ذاتها. ولعل محنة الإخوان الحالية تكون نقمة في طيها نعم، حيث تتيح فرصة مراجعة جذرية لفكر الحركة واستراتيجياتها لتتناسب مع متطلبات مجتمعات القرن الحالي.
ولا يعني هذا أن تصبح الجهات التي تدعي حق وواجب «استئصال» الإسلاميين هي المرجعية في هذا الشأن أو غيره، أو حكماً على من يجب استئصاله، ومن يحق له المشاركة في الحياة العامة، بغير سلطان أرضي أو سماوي، سوى امتلاك أدوات القوة من أموال وإمكانات قهر واستتباع. فلا يمكن أن يكون منطق القوة العارية هو الحكم في مثل هذه الأمور.
ومع ذلك فإن الجهات التي تدعي مثل هذا الحق هي على كل حال جهات مفلسة، فاشلة حتى في الواجب «الاستئصالي» الذي ندبت نفسها له. وتنصيب المنقرضين أوصياء على من يحق له البقاء أو الانقراض هو تناقض بيّن.
الخلاصة هي أن هناك إشكالية مزدوجة، تعود إلى فشل مشترك لكلا طرفي النزاع في تحقيق الهيمنة السياسية والأخلاقية وحسم القضية موضوع الصراع، وهي الانفصام بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. فالقوى العلمانية المهيمنة منذ العهد الاستعماري تواجه تحديات متزايدة لسلطانها من قبل التيار الإسلامي الصاعد، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات يائسة قدحت أكثر في شرعيتها وأهليتها.
ولكن الحركات الإسلامية تواجه كذلك مشكلة مماثلة في فرض سلطانها، حتى في البلدان التي انفردت فيها بالأمر، كما حدث في إيران والسودان. المشكلة إذن هي مشكلة جذرية تتعلق بالشرعية في الدول المسلمة، وعجز النخب عن التوافق على أسس راسخة لها. ولا بد من حل توافقي يحسم هذه المسألة عبر التعايش.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)