إنّ المتأمّل لكل ما تمر به الدول العربية من ويلات، يدرك أنّها لم تعد بحاجةٍ إلى مزيد من الأصابع لتشير للبيّن الواضح من التدمير، بل هي بحاجة إلى يقظة من طول سبات، ولملمة لفكر ممزّق وشتات، فتمتَلك الفهم الرصين للحقيقة التي غيّبتها التشعبات الدقيقة، وتوطّن الأيديولوجيات، وتتخذ لها مسارا يوحّد الصفوف وإن كان مسارا غير مألوف، فلا تنعق بما تسمع، وتتبع ما لا ينفع، فما تتخبط فيه من أزمات ليس بسبب البترول ولا بسبب حاكم ديكتاتور، ولا حتى بسبب شعب لأجل التحرر يثور، إنما تلك معتقدات صدقتها الشعوب دون تحر للدوافع، وتمحيص للوقائع.
وقد يقول قائل إنما تلك مسألة قد مرّت، وخلفياتها قد حُسِمت، غير أنّ ذلك للوهم أقرب، فما يحدث إلى اللحظة لم يُفهم، والحقيقة إلى الآن لم تُجزَم، ذلك أنّ النخب من المثقفين لم يعد لهم مِن هَمّ غير سرد لأعداد الضحايا في الخطب، ونحيب وشجب، بيد أنّ الحري بهم هو عقد مجالس ومؤتمرات عربية، لأجل حوار بنّاء، فيه تجتمع العقول المنفتحة، بعيدا عن خِوار بطون منتفخة، ورؤوس منبطحة، حوار لايؤخّر الانتصار فيه للذات، إلاّ ليُقدّم انتصار حقٍ راسخٍ بثبات.
فمشكلة العالم العربي اليوم أنّ القائد فيه صار إمّا جماهير مُتدنية الذكاء تشد إلى مستواها كما قال "السيد ماك دوغال" عقولا متفوقة الذكاء، جماهير قال عنها عالم الاجتماع "غوستاف لوبون" تقترب من الكائنات البدائية، وغير قادرة على رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء، وكل فكرة تعتنقها تتحول إلى يقين لا يقبل الشك.
فكيف يمكن أن تتصور شعوب أنّ مفاتيح السلام ستكون بقبضتها يوم يتسلم الشيعة الحكم؟ وهي ترى عين اليقين سوريا والحرب فيها قد اندلعت، والنيران قد أضرمت، فقط لأنّ حاكمها من الشيعة، وإيران تريدها دوما سميعة مطيعة؟ وكيف تتصوّر أخرى أنّ الخلاص لها سيكون إن كان حاكمها من السنة وهي تبصر اليمن وقد طوقها الحوثيون ثم عصف عليها العاصفون؟ أو كيف يمكن لدولٍ أن تطمح في حكم إسلامي ومصر قد أحدثوا بها الانقلاب وغلقوا عن الشرعية فيها كل باب، فأثاروا الصدام، وبات المنتخَب فيها محكوم بالإعدام؟ ثم كيف تريد أخرى حكما ديمقراطيا؟ وليبيا قد اغتيل فيها الحاكم الديكتاتور ورغم ذلك هي اليوم تفور، وميليشيات حفتر فيها لا تبق ولا تذر؟
إنّ كل ذلك يجعلنا نتبنى رؤى أخرى تبعدنا عن إيحاءات أنجبتها تراكمات مشاهد أثقلت الألباب، فأوصدت دون الفهم كل باب، وهي الآن وظيفة المثقف ليبحث ويفكر عن بدائل حقيقية تنقذ هاته الأمة، كما فكّر منذ قرون خلت، رئيس وزراء فرنسا "ريشيريو" حين أقام كيانا لفرنسا بعدما قطّع الإقطاع والتعصّب الديني أوصالها، فوضع نظرية جديدة ومتكاملة في الحكم والإدارة، ورسم خطا عاما للسياسة الفرنسية لايقوم على مجرّد عفوية وإرتجالية، وليس معنى ذلك أننا لم نجد أمثلة تضاهي ريشيريو في تراثنا العربي، إنما أردنا هذا المثال، لأنّ فرنسا تُعد إلى الآن رائدة التحرر، رغم أنّ المتأمل في التاريخ يدرك أنّ لكل فكرة وليدة أُمًّا أرضعتها، ثم عقولا توارثتها، فأجيالا تبنّتها.
وجوهر هذا كله كما قال المفكر إدوارد سعيد هو: "يقظة يمليها التعاطف الإنساني وإعادة التقييم بأمانة وإخلاص، لا بالترانيم التي يتجلى فيها الجمود المذهبي والتظاهر بالدفاع عن الشعب... وعلى المثقف أن يحيي الاجتهاد لا أن يجري منساقا وراء علماء الدين ذوي الطموحات السياسية، أو مثيري عواطف الدهماء من المتحدثين ذوي الشخصيات الجذابة".