يعدّ كتاب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري
كيسنجر "النظام العالمي"، والصادر العام الماضي، من ضمن كتب مرجعية قليلة تقرأ الأحداث والوقائع السياسية عبر ربطها بالتاريخ والفلسفة والاجتماع والدين.
ومع أن هذا الكتاب- المكتبة يعيد إلى الكتابة هيبتها واحترامها، إلا أنه لم يحظ في المنطقة العربية بما يستحقه من النقاش والجدل، برغم أنه تناول في طياته صفحات كثيرة في الحديث عن السياسة والدين والصراع في المنطقة العربية، قديما وحديثا.
يؤكد كيسنجر في كتابه أنه في ظل بعض حكومات الشرق الأوسط اليوم، يتعايش المؤمنون بنظام عالمي يقوم على هيكل الدولة الوطنية، والمؤمنون بنظام عالمي يقوم على الدين، وإن كان
التعايش بينهما لا يتحقق بسهولة أحيانا. وفي نظر كثيرين من المؤمنين بالأيديولوجيا الحديثة التي تسعى إلى فرض النصوص الإسلامية المقدسة، على أنها المحكّم والمرجع الرئيس في شؤون الحياة الشخصية والسياسية والعلاقات الدولية، وخاصة في هذه الفترة التي تشهد عودة صعود الزخم الإسلاموي، فإن العالم الإسلامي ما يزال في حالة مواجهة لا مهرب منها مع العالم الخارجي.
وينبّه الدبلوماسي الأميركي العريق إلى أنه ليس هناك عبر التاريخ، مجتمع امتلك وحده القوة الكافية
لفرض قوانينه بصورة دائمة على العالم بأسره، وليس هناك قيادة امتلكت القدرة على الصمود وفرض سلطتها، وليس هناك دين امتلك الدينامية الكافية لفرض شرائعه على العالم برمّته. فقد أثبتت فكرة العالمية (الانتشار العالمي)، أنها وهم وسراب أمام أي فاتح، بما في ذلك الإسلام، وفق رأيه.
ويميل كيسنجر إلى تقرير أن الحرب المقدسة تغذي أحيانا الجهود القوية أصلا لتصبح ذات قوة أعظم، ولكنها محكوم عليها بالفشل كلما استهانت بالحقائق الاستراتيجية والسياسية. ويؤكد، عبر سبره لكثير من الوقائع التاريخية لدى مختلف الحضارات، أن المصالح تعلو في كثير من الأحيان على الأيديولوجيا والعقائد.
كيسنجر يعترف صراحة أنه نتيجة لخطأ في التصورات، كانت هناك نخب غربية تعد حماسة الثائرين (أمثال الخميني أو سيد قطب) غير قابلة للتفسير، وتفترض أن تصريحاتهم المتطرفة قد تكون مجازية أو يتم إطلاقها فقط كورقة مساومة. لكن في نظر المتطرفين الإسلاميين (شيعة، وسُنّة)، فإن هذه الآراء تمثل حقائق تتفوق على القوانين والأعراف التي جاء بها نظام "وستفاليا" العالمي، أو أي نظام عالمي آخر. وقد ظلت هذه الآراء المتطرفة صرخة الاستنفار لحشد الراديكاليين والجهاديين في الشرق الأوسط وما وراءه، طوال عقود، وكانت تردد صداها تنظيمات "القاعدة" و"طالبان" و"حماس" و"حزب الله" والنظام الكهنوتي الحاكم في إيران، وحزب التحرير، و"بوكو حرام"، و"النصرة"، و"داعش".
هذا النمط من الفكر، برأي كيسنجر، يمثل النقيض الكامل تقريبا لنظام "وستفاليا" العالمي. ويلخص كيسنجر فكرته الأساسية حول تعارض الأيديولوجيا المتشددة والفكرة الدينية حين تنغلق وتتطرف، مع الصورة الحديثة للعالم، بقوله: إنه من منظور هؤلاء الأيديولوجيين الدينيين المتطرفين، فإنه خلال السعي لإقامة النظام الإسلامي، لا يجوز للدول أن تكون نقطة الانطلاق لإقامة نظام دولي، لأن هذه الدول علمانية؛ أي فاقدة للشرعية، وفي أفضل الحالات، يمكن للدول أن تحقق شكلا من أشكال الكيان المؤقت على الطريق نحو بناء كيان ديني على نطاق أوسع.
ووفق هؤلاء أيضا، فإنه لا يمكن لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أن يكون مبدأ منظما للعلاقات؛ لأن الولاءات الوطنية تمثل انحرافا عن العقيدة الصحيحة، ولأنه يترتب على الجهاديين واجب تغيير شكل دار الحرب التي هي عالم الكافرين.
بجملة أخيرة مختصرة، فإنّ النقاء -وليس الاستقرار- هو المبدأ الحاكم لهذا التصور الإسلاموي أو الجهادي عن النظام العالمي.
(نقلا عن صحيفة الغد الأردنية)