كان عمرو بن هند ملك الحيرة يُجلّ أمه، وظن أنه لا يوجد في
العرب من يستنكف عن خدمتها، فما أن سمع بأنفة الشاعر عمرو بن كلثوم، حتى دعاه وأمه لزيارته، واتفق قبلها الملك مع والدته على أن تقول لأم الشاعر العربي: ناوليني الطبق الذي بجانبك.
جلست أم الملك على مائدة الطعام وقالت لضيفتها ليلى أم عمرو بن كلثوم: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فأبت، فأعادت الكرّة، فأبت وصاحت تنادي ولدها بعد أن تعرضت للإهانة.
فاشتدّ غضب ولدها الشاعر، فرأى سيفا معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك، ونادى في بني تغلب فنهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة معروفة يخاطب بها الملك.
هذا بالتأكيد ليس حلما وإنما هو حقيقة العرب قبل أن يتخلّوا عن الأنفة وقوة الشكيمة، ولنترك تلك القصة جانبا، ونقفز إلى أوائل القرن العشرين، إلى حيث ذلك الرجل:
"راسبوتين" ذلك الكاهن الماجن الذي قيل إنه كان أحد أسباب سقوط
روسيا القيصرية الذي غير مجرى التاريخ المعاصر.
تمكن هذا الرجل من السيطرة على القصر، وشق سبيله إلى الجماهير وإلى النخب الأرستقراطية عن طريق القوة النفسية الرهيبة التي كان يتمتع بها، وقيل إنه تمكن من خلالها من علاج حالات مستعصية بالإيحاء.
تذكرتُ هذا الراهب الروسي لدى تأملي في صفحات فلاديمير
بوتين، ولمست ذلك العامل المشترك الذي استغلّه كل منهما في فرض تأثيره على الآخرين.
تلك القوة تهواها الشعوب الطموحة في أن تكون في زعمائها، إذ تُشعرهم تلك الكاريزما العالية، وذلك الصلف والاستعلاء على الدول الأخرى والمنافسة على وجه الخصوص، بأنه ينوب عنها ويعبر عن تطلعاتها للقوة والمجد وبسط النفوذ والريادة، ويرسم لها صورتها العالمية.
عندما ترى الإعلام الروسي يركز على صورة بوتين أو الكابتن بوتين الذي تخطى عامه الستين، وهو يصرع منافسا له في رياضة الجودو بكل قوة ورشاقة.
وعندما ترى بوتين يظهر بصدره العاري مستعرضا عضلاته رغم تقدمه في العمر.
وعندما ترى بوتين يجلس بجانب النمر وكأنه هرة شيرازي.
وعندما يصطاد بحربة الصيد في عرض البحر.
وعندما تراه يمتطي الخيل أو يجلس في مقعد الطيار في مقاتلة روسية.
فاعلم أن هذا الرجل لا يعبث، وأنه يحرص على إظهار قوته النفسية والجسمانية للعالم، في مقابل الظهور الناعم للرئيس الأمريكي أوباما الذي قارنت مواقع التواصل الاجتماعي بينه وبين نظيره الروسي بسخرية لأنها تحمل توجيهات نفسية، مفادها أن الروس هم الأقوى، هم الأجدر.
طالعتُ مؤخرا خبرا عن رصد ظاهرة جديدة في شوارع روسيا، تمثلت في ظهور صورة بوتين على واجهات المحلات والمنتجات والملابس والهواتف المحمولة والحواسيب والأواني، وهذا قطعا له دلالاته في ازدياد شعبية هذا الرجل رغم كل ما تمر به روسيا من ظروف إقليمية وعالمية صعبة.
تلك الشعبية قد أكد عليها المحلل السياسي والدبلوماسي الروسي السابق فيتشيسلاف ماتوزوف لبرنامج "ما وراء الخبر" على قناة الجزيرة في نوفمبر الماضي، حيث قال إن الرئيس بوتين يتمتع بدعم حوالي 90% من أصوات الروس.
ويبدو أن بوتين يستخدم هذه القوة الإيحائية لتجييش شعبه وتعبئته لدعم رئيسه في إعادة المجد الروسي، والتناطح مع القوة العظمى التي تفردت بالريادة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، رغم عدم التكافؤ في القوة الاقتصادية على الأقل.
هذا الرجل يصنع للروس حلما ما، على غرار ما صنعه هتلر مع الشعب الألماني، والذي أقام ذلك الحلم على وهم تميز الجنس الآري، فها هو بوتين يقيمه على صورة المجد القديم.
انطلق بوتين بنزعته التوسعية لانتزاع القرم متحديا أمريكا والناتو، ونجح بالفعل في ذلك التحدي، وهو ما دعم شعبيته، حتى إنه للسنة الثانية على التوالي هزم نظيره الأمريكي باراك أوباما واحتل المرتبة الأولى في تصنيف مجلة فوريس لأقوى قائد في العالم.
لقد صار بوتين مصدر رعب لأمريكا وأوروبا، فقد وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون بأنه يسعى لإعادة كتابة حدود أوروبا الشرقية.
وبالمثل أعرب وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون عن قلقه الشديد إزاء سياسة بوتين الخارجية، ورأى أنه يمثل خطرا شديدا على المنطقة؛ عبر التكتيكات المستترة التي يصدرها للجمهوريات السوفييتية السابقة، والتي من شأنها زعزعة استقرارها تمهيدا لضمها.
كثرت وتتابعت خطى بوتين في التدخل في بؤر الصراع، وأقحم نفسه في الملفات الساخنة البعيدة عن منطقته، يلعب دور المشاكس مع أمريكا والغرب في التدخل في شؤون مصر واليمن وسوريا.
أعود وأنظر إلى حكام أمتي فما رأيت قوة، وما رأيت استعلاء، وما رأيت حلما.
الخور، الاستخذاء، طأطأة الرأس أمام الشرق والغرب، لم كل هذا؟
هل تنقصنا القوة؟ هل ينقصنا المال؟ هل تنقصنا الثروات المادية والبشرية؟ هل ينقصنا التاريخ والجذور؟
حتما نمتلك كل مصادر القوة هذه، غير أن حكام أمتي يفتقدون أهم هذه المقومات:
يفتقدون التواصل مع الشعوب، يقفون على الشاطئ المقابل لهم، المسافات البينية شاسعة، وتأييدهم في الغالب لا يكون إلا على أساس تحقيق منافع شخصية أو فئوية.
وهم كذلك يفتقدون تعبئة وتجميع الجماهير على حلم، نعم حلم ينسجم مع هويتهم وقيمهم ومشاكلهم وتطلعاتهم.
وبدون هذين الأمرين المتلاحمين، سنظل نسير في المحل، وندور في حيز التيه لا نخرج منه، ويا ليت قومي يعلمون.