تعدُ
قلعة القاهرة أبرز
المعالم الحضارية في مدينة
تعز جنوب
اليمن، لما تمثله من بُعد تاريخي يجسد عراقة وإبداعات اليمنيين القدماء، ولعل الزائر للقلعة يكتشف أسرار وجوانب إبداعية جمة، لم تذكر في كتب التاريخ.
وتكتسب القلعة أهميتها من كونها تحفة معمارية فريدة، وحصناً تاريخياً قديماً، يعود إلى عصور قديمة، فضلاً عن حضورها السياسي والعسكري في مختلف التحولات التاريخية التي مرَّت بها المنطقة.
وتختلف الروايات التاريخية حول الحقبة الزمنية التي بنيت بها قلعة القاهرة، فبعضها تقول: إن القلعة بنيت قبل ألف عام وتحديداً في العصر الصليحي (1045-1138م)، ويرى مؤرخون آخرون أنه جرى بناؤها في عصر ماقبل الإسلام، غير أن عصورها الذهبية كان في عهد الدولة الرسولية التي حكمت اليمن في الفترة التي تلت حكم الصلحيين.
وبالرغم من وجود أشهر معتقل سياسي فيها وأشهر سجن حربي بداخلها، إلاّ أنها كانت تحوي أعرق مدرسة علمية لنزلاء القلعة، وللرهائن من أبناء وجهاء القبائل، وفيها تلقى العلوم الإسلامية والعربية آلاف النوابغ عبر العصور، وكان ممن درس فيها الشيخ علي بن عبدالله البحر، من قبائل ماوية في أثناء ولاية عهد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين في أربعينيات القرن العشرين.
قلعة مجهزة بتحصينات لصد أي عدوان
ويؤكد الأكاديمي والباحث بقسم الآثار بجامعة صنعاء سعيد المخلافي، أن تسمية "قلعة القاهرة" بهذا الاسم، نظراً لموقعها الحصين، ولا يوجد لديها سوى مدخل رئيسي واحد من جهة الجنوب، غير أن استنادها على جبل صبر الذي يطل عليها أيضاً، من الجهة الجنوبية، جعلها مؤهلة لقهر أي عدوان عليها. فضلاً عن "السور المحيط بها الذي يتجاوز ارتفاعه 3 أمتار ويحيط بها بشكل دائري، وتظهر على ذلك السور أبراج وفيها غرف خاصة بالحراسة، بالإضافة إلى فتحات خاصة بقناصة ومدافع حرس القلعة".
وقال المخلافي في حديث لـ"عربي21": إنه "جرى إنشاؤها من الدولة الرسولية التي حكمت اليمن مابين (القرن الثالث عشر والخامس عشر) ميلادي، وتكتشف من خلال التصميم المعماري الذي بنيت عليه القلعة، مدى براعة علم الرسوليين الذين اشتهروا بخبرتهم في علم المغناطيس"، واستدرك قائلاً إن "هناك دلائل تاريخية تشير إلى أن القلعة جرى بناؤها في عهد ما قبل الإسلام كموقع، بينما شهدت القلعة عصورها الذهبية في عهد الرسوليين".
وأوضح الباحث المخلافي أن "قلعة القاهرة سجلت حضوراً سياسياً في مختلف المراحل التاريخية التي ساد فيها الصراع على السلطة، حيث حولتها أسرة بيت حميد الدين التي حكمت البلاد في الفترة التي سبقت اندلاع ثورة 26 من أيلول/ سبتمبر 1992 التي أطاحت بهم، لقمع خصومها السياسيين، وتحديداً للاحتجاز السياسي"، مؤكداً أنه تم استحداث ما سُمّي بـ"دار الأدب أو الإمارة"، للاعتقال السياسي لأبناء المشايخ وأعيان مدينة تعز، تحت مبرر تعليمهم، لكنهم في الحقيقة كانوا مجرد "سجناء ورهائن" لمنع أي خطوات مناهضة لحكم الإمامة في البلاد.
وذكر الأكاديمي بقسم الآثار أن "القلعة مجهزة بتحصينات عسكرية تمكنها الصمود في وجه أي عدوان للقاطنين فيها، حيث يوجد في الداخل مخازن استراتيجية للمؤن الغذائية ويطلق عليها "مدافن الحبوب"، بالإضافة إلى مستودعات خاصة بها للأسلحة والذخائر".
وتتألف القلعة من جزأين: الأول، ويسمى "العدينة" ويضم حدائق معلقة، على هيئة مدرجات شيدت في المنحدر الجبلي، وسداً مائياً، وأحواضاً نحتت وشيدت في إحدى واجهات الجبل، فضلاً عن القصور التي تتناثر في أرجائه محاطة بالأبراج والمتنزهات، أما الجزء الثاني للقلعة “منطقة المغربة” فيضم عدداً من القصور وأبراج الحراسة ومخازن الحبوب وخزانات المياه.
أما سور القلعة، فيعد أحد الشواهد التاريخية المهمة على تاريخ مدينة تعز، إذ شيد قديماً ليحوي كل أحياء المدينة القديمة، وقد شيد بطريقة هندسية بالغة التعقيد بارتفاع 120متراً، وبسمك أربعة أمتار، محتوياً على وحدات الخدم وغرف حراسة.
وتواصل سور القلعة، مع سور تعز القديمة، الذي كان له أربعة أبواب رئيسة، وهي: الباب الكبير، باب الشيخ موسى، باب المداجر، وباب النصر، وفوق كل باب برج مخصص لحراس المدينة. أما الجزء الثاني للقلعة "منطقة المغربة" فهو عبارة عن عدد من القصور وأبراج الحراسة ومخازن الحبوب وخزانات المياه.
ومنذ العصر العثماني الأول مروراً بحكم الأئمة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين للميلاد، ظل دور قلعة القاهرة منحصراً فقط في كونها سجناً سياسياً للرهائن وثكنة عسكرية تسيطر على مدينة تعز. فدار الأدب في هذه القلعة كان معتقلاً، ومنفى سياسياً في الوقت ذاته، وفيه سجن عشرات الآلاف عبر العصور، وقتل فيه المئات.
واستمرت قلعة القاهرة بمدينة تعز اليمنية مركزاً عسكرياً وإدارياً في عهد العثمانيين. وبعد ذلك اتخذها الأئمة الزيديون سجناً للرهائن، واستمرت مركزاً عسكرياً بعهد الجمهورية، إلى أن تم ترميمها وتأهيلها مؤخراً لتصبح معلماً سياحياً مفتوحاً للزوار.
الترميم حولها إلى معلم سياحي
واحتاجت "قلعة القاهرة"، وهي معلم تاريخي بارز في مدينة تعز جنوب اليمن، إلى 12عاماً من الترميم الذي لم يستكمل بعد، حيث جرى استبدال الصورة العسكرية المرسومة لها في الأذهان، كحصن لا يفكر أحد باقتحامه، إلى أخرى جديدة لموقع أثري نادر، أضحت أبوابه مفتوحة أمام الزائرين حالياً.
غير أن عملية الترميم للقلعة غيرت الكثير من الملامح والأبنية، منها القباب المستعارة من الشكل الهندي وجنوب شرق آسيا، والبوابات الخارجية، مما شوه ارتباطها للموروث الشعبي والتقليدي للبلاد، وفقاً لسكان محليين.