«سوف ندين علانية، بالطبع، كلّ ديمقراطي لا يحضر الخطبة… إلا إذا كان لديه تقرير طبي». هكذا صرّح مورت كلاين، رئيس «المنظمة الصهيونية في أمريكا»، التي تعدّ 30 ألف عضو، تعليقاً على عزم بعض النوّاب الديمقراطيين مقاطعة جلسة
الكونغرس المشتركة، التي عُقدت للاستماع إلى خطبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو. ثمة دلالة خاصة في الإشارة، بادئ ذي بدء، إلى أنّ نتنياهو -وضمن المعايير الإسرائيلية، والأمريكية، ذاتها- ليس أبرز الشخصيات التي تولت رئاسة الوزارة على امتداد تاريخ إسرائيل، ومع ذلك فقد خاطب الكونغرس ثلاث مرّات، حتى الساعة، فتساوى بذلك مع ونستون شرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، والأشهر.
لا عجب، في ضوء هذا «الدلال» الفائق الذي يتمتع به نتنياهو، أن يأتي إلى
واشنطن لكي يتحدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما شخصياً، ويبتز الرأي العام عن طريق ابتزاز الكونغرس، ويقرع طبول الحرب في وجه الدبلوماسية، ويتابع حملته الانتخابية على مبعدة آلاف الأميال، وعبر البحار والمحيطات. ولا عجب أن ينذر ويهدد ويتوعد، ضد أيّ اتفاق سلمي مع إيران حول برنامجها النووي، محذراً من أخطار ذلك البرنامج على أمن إسرائيل (مالكة 100 ـ 200 قنبلة نووية، لتوّها!). ولا عجب، أخيراً وليس آخراً، أن يبدأ بامتداح الخدمات الكبرى التي قدّمها أوباما حفاظاً على إسرائيل، لا سيما وأنّ ما خفي من تلك الأيادي البيضاء، ولا يعلمه إلا نتنياهو وأوباما، كان أعظم…
ولعل من الخير للمرء أن يبدأ من هنا، تحديداً: أي أوباما، من حيث الوفاء الأقصى لإسرائيل، جاء نتنياهو ليلقي القفاز في وجهه؟ وهل هو، على أيّ نحو، أقلّ تفانياً في الدفاع عن إسرائيل من أيّ رئيس أمريكي سابق، منذ هاري ترومان وحتى اليوم؟ وهل إصرار أوباما على انتهاج الخيار الدبلوماسي، والضغط السياسي والاقتصادي على إيران لدفعها إلى الالتزام ببرنامج نووي سلمي حقاً، بلا أسنان أو مخالب، هو في غير صالح إسرائيل؟ أم أنّ أوباما لا يقلّ حرصاً، إذا لم يكن أحرص، من نتنياهو على تجنيب إسرائيل ويلات مغامرة عسكرية طائشة وحمقاء، في حال إقدام نتنياهو على شنّ غارات جوية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية؟
ثمّ، في الجوهر الآخر للمسألة، ألا يقرأ نتنياهو خلاصات ما يقوله بعض كبار المحللين والمعلقين اليهود، والصهاينة، حول إيران بوصفها صديقة إسرائيل في العمق الجيو ـ سياسي والتاريخي، لا عدوّتها؟ ألا يستذكر طبيعة «الردّ المزلزل»، الذي استقرت عليه إيران، ثأراً لجنرالاتها وحلفائها وأزلامها الذين استهدفتهم إسرائيل في هضبة الجولان مؤخراً؟ وما دام نتنياهو يعتبر أنّ «عدو عدوي هو عدوي» هذه المرّة، في ما يخصّ مشاركة إيران في الحرب على «داعش»، فكيف يعلل اعتناقه مبدأ «عدو عدوي صديقي»، في ما يخصّ قتال طهران و«حزب الله» ضدّ الانتفاضة الشعبية في سوريا، وإيمانه بأنّ آل الأسد هم خير وأبقى من أيّ بديل؟
والحال أنّ ستة أعوام مما يلوح أنه مسلسل صدامات علنية، بين أوباما ونتنياهو، كان يستبطن اتفاقهما على الكثير، وعلى الجوهري، وتحديداً على ذاك الذي خفي وكان أعظم، لكي يقتبس المرء مغزى إطناب الثاني في مديح الأوّل، خلال الخطبة امام الكونغرس. فمنذ لقاء أيار/ مايو 2009، في البيت الأبيض، أبدى أوباما حرصاً بالغاً على عدم إحراج ضيفه، فاكتفى بالعموميات والتأتأة الدبلوماسية في كلّ ما يخصّ الحقوق الفلسطينية، وصال بلاغةً وجال خطابةً في التشديد على التزامه المطلق بأمن «إسرائيل، الدولة اليهودية». ولقد بدا أنّ المضيف والضيف قد اتفقا، ضمن صيغة مكتومة من التواطؤ المكشوف، على تناسي ما دار بينهما من حديث أثناء زيارة أوباما إلى إسرائيل، حين كان الأخير محض مرشّح للرئاسة، وكان نتنياهو زعيم حزب «ليكود» الطامح إلى هزيمة «كاديما». آنذاك، روى نتنياهو للصحافة، انزوى الرجلان بعيداً عن الحشد، فقال الأوّل للثاني: «أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور».
لكنّ اوباما لم ينجز أيّ شيء على الجانب المقابل للمعادلة، أي خدمة أمن إسرائيل مقابل تنازل نتنياهو في ملفّ الاستيطان، و«حلحلة» الأمور قليلاً على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين. لقد حدث العكس، في الواقع، لأنّ إسرائيل أعلنت إقامة المزيد من المستوطنات في القدس الشرقية، في توقيت محسوب هو زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إسرائيل. غير أنّ اعتراض إدارة أوباما على مشاريع الاستيطان المتجددة لم يكن أكثر من إعادة إنتاج لاعتراضات مماثلة صدرت عن جميع الإدارات السابقة، وإن اختلفت في اللفظ بهذا المقدار أو ذاك.
كذلك صار جلياً، على نقيض الأحلام التي راودت البعض، أنّ الرئيس الأمريكي لن يمسّ خصوصية
البرنامج النووي الإسرائيلي، ولن يبدّل التفاهم الضمني الذي توصّل إليه الطرفان سنة 1969 (لا تجري إسرائيل أي تجارب نووية، وفي المقابل تمتنع واشنطن عن الضغط على تل أبيب للانضمام إلى اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية). أكثر من هذا، بدا أنّ أوباما يسابق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، قدوته العليا في السياسة الأمريكية الشرق ـ أوسطية، في الإعراب عن «انتسابه إلى التفاهم الرئاسي العميق في هذا الميدان»، أي «قدرة الردع الإسرائيلية»، التي يتفق الطرفان على أنّ ترجمتها اللغوية الأخرى الوحيدة هي: امتلاك السلاح النووي.
ثمة، إلى هذا كله، خيبة أمل لا بدّ أنها ساورت أوباما حين اكتشف أنّ رهانه على شريك متحوّل (من اليمين إلى الوسط) كان خاسراً تماماً: نتنياهو 1996 (زعيم الليكود، ورئيس إسرائيل بالانتخاب، وليس بالتعيين كما كانت الحال قبلئذ) قطع مشواراً حافلاً لتصعيد نتنياهو 1991 (الشخصية المتلفزة التي أطلّت على العالم من شاشة الـCNN، عبر قناع واقٍ للغاز، في أعقاب سقوط أوّل صاروخ «سكود» عراقي على تل أبيب). وبعد وقت قصير من تولّيه المنصب، كان المزاج الدولي والعربي الرسمي (من حسني مبارك وحافظ الأسد، إلى الرئيسين الأمريكي الأسبق بيل كلينتون والفرنسي الأسبق جاك شيراك…) يقوم بترقية نتنياهو وتبييض ساحته وصفحته.
لقد طالب بالسلام مع الأمن والقوة وأرجحية الكفّ الإسرائيلية، وشدّد على أنه في ذلك لا يتجاوز «المفهوم» الأمريكي العريق للسلام المسلّح حتى النواجذ. وطمأن العالم إلى أنه ملتزم بالاتفاقات التي وقعها سلفاه إسحق رابين وشمعون بيريس، فبدا الإعلان أشبه بكرم أخلاق من جانبه، كأن الديمقراطية الإسرائيلية تسمح له بإلغاء أي ميثاق موقع، ولكنه هو الذي يأبى ذلك بسبب افتتانه بالسلام. وشاء أن يبدو عادلاً حين نشد المساواة في توزيع التنازلات بين العرب والإسرائيليين، فرأى أنه من غير المعقول أن تقدّم إسرائيل انسحابات من الأراضي المحتلة بنسبة 100%، ولا يقدّم العرب شيئاً، حتى لقد خيّل للبعض أنّ العرب هم الذين يحتلون بعض الأراضي الإسرائيلية ويماطلون في الانسحاب منها!
وفي القاع العميق من سلوكه، خاصة حين يرغي ويزبد ويعربد، يؤمن نتنياهو بأنه رونالد ريغان الجديد، أو الطبعة الإسرائيلية من ذلك «الحكيم الأمريكي المسلّح» الذي أوصل المعسكر الشيوعي إلى أسفل سافلين، وحين يزور واشنطن، فإنه يأنس في نفسه حسّ الإغداق على أمريكا، و… ردّ البضاعة إلى أهلها!
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)