هذه المقالة ليست مقدمة كتاب في
التنمية البشرية لا سمح الله، بل هي مجموع تجارب كثيرة، ومشاهدات متعددة، عاشها كاتب هذه السطور، أو عاشها آخرون أمام عينيه، بالإضافة إلى قراءات اختبر صدقها بشكل ما.
الحديث عن اليأس ضرورة، لأنه ظاهرة استشرت عند الشباب اليوم، وعند بعض الكُتَّاب والنُخَب التي توجه الرأي العام، وهي ظاهرة طبيعية، سواء في وجودها، أو في انتشارها، ولكني أزعم أن لهذه الظاهرة أسبابا، وأزعم أيضا أن اليأس جرثومة يمكن القضاء عليها، ويمكن الوقاية منها أيضا.
هناك ظواهر أخرى تزداد في هذه الأيام الصعبة التي نعيشها، مثل الانتحار، والتشكك في
الدين (ولا أقصد ذم من يفعل ذلك، فقد طالبنا الله بالتفكر)، وانتشار
الجريمة، والمخدرات، وغير ذلك من الظواهر الاجتماعية الدينية الاقتصادية المركبة، وكلها في رأيي تتصل بشكل ما بجرثومة اليأس.
اليائس إنسان مهيأ لارتكاب حماقات كثيرة، ولديه استعداد لرؤية الكون بمنظار غير دقيق، يُكَبِّرُ الظواهر الصغيرة، ويُصَغِّرُ الظواهر الكبيرة، من الممكن أن ينتحر بقتل نفسه، ومن الممكن أن يتهور بقتل الآخرين، ومن الممكن أن يعيش صداعا في رؤوس من حوله.
اليأس طاقة، صحيح أنها طاقة سلبية، ولكن يمكن توظيفها، وذلك ما أدركه الحكيم الصيني القديم (صن تزو) صاحب كتاب فن الحرب، وشرح لنا أن اليائس قنبلة، من الممكن أن تنفجر في وجه عدوه، فقال : "عندما تحاصر جيشا، اترك له منفذا للهرب لكي تحرمه من شجاعة قتال اليائس"، نعم ... اليائس الذي لا يملك شيئا يخسره يقاتل بشجاعة وشراسة لا مثيل لهما، إنه قتال مُوَدِّع، فلا تجعل يأس الجيش الذي أمامك قنبلة تنفجر فيك أنت، بل افتح له ثغرة لكي يهرب منها.
اليأس قد يكون حالة فردية، ومن الممكن أن تتضخم حتى تصير حالة جماعية، وإذا أصيبت أمة بسرطان اليأس فقل عليها السلام.
هل حدث أن أصيبت أمة أو شعب كامل بسرطان اليأس؟
من العيب أن يسأل كاتب مصري هذا السؤال !
نحن أمة اليأس واليائسين، استحوذت جرثومة اليأس على شعب كامل في نكسة يونيو 1967، ومنذ ذلك الحين أصبح كل شيء في تراجع.
صحيح أننا انتصرنا وعبرنا في عام 1973، ولكن الهزيمة كانت أعمق من أن تتركنا لنتصرف كمنتصرين، لذلك تفاوضنا بمنطق المهزوم، ووقعنا اتفاقيات كان من الممكن أن نحصل على أفضل منها بكثير جدا، لأننا تفاوضنا ووقعنا ونحن مهزومون من أعماق أعماقنا، لقد أبرمنا هذه الاتفاقيات ونحن نظن أننا منتصرون، والحقيقة أننا أبرمنا الاتفاقيات ونحن لم نُفِق من الهزيمة.
وحتى بعد توقيعنا، لم نستغل ما في هذه الاتفاقيات من فرصة للتفرغ للتعمير وبناء قوة ناعمة، أو تطوير التعليم، أو النهوض بالصناعة، بل حدث العكس، وانهارت كل مؤسسات مصر لصالح التفوق الإسرائيلي، وذلك جزء من عقلية الهزيمة.
الإسرائيليون هزموا في أكتوبر 1973، ولكنهم لم ييأسوا، ولم يفقدوا الثقة في أنفسهم، وتصرفوا كمنتصر يمر بأزمة، واستطاعوا أن يعالجوا خسائر هذه الجولة، أما نحن فقد انتصرنا، ولكن تصرفنا كمهزومين، وتفاوضنا بمنطق شديد السذاجة يريد أن يحصل على أي شيء قبل أن يحدث أي شيء ليس في الحسبان.
لقد أصاب فيروس الهزيمة جيلا كاملا، فسَطَّرَ الشعراء قصائد الهزيمة، وصوَّرَ السينمائيون أفلام الهزيمة، حتى رجال الأعمال ستجد استثماراتهم قصيرة الأجل، تعتمد على الهبش والجري سريعا، وهذه عقلية المهزوم.
إنها روح اليائس التي لا تستطيع أن تتخيل الإنجاز، لهذا لم نصل لكأس العالم، وحين وصلنا لكأس العالم، لم نصدق أننا تعادلنا مع هولندا، وحين تعادلنا معها أذلنا من أحرز هدفا من ضربة جزاء لأكثر من ربع قرن، وحين لعبنا مباراة أخرى كان بإمكاننا الفوز فيها بسهولة، تصرف المدرب (وهو من جيل الهزيمة) بشكل غريب، فقاد فريقا قويا يستطيع أن يكسب المباراة، بشكل دفاعي ليس له تفسير سوى تفسير الهزيمة الداخلية ... إنه مدرب من جيل النكسة (رحمه الله، كان مدربا عظيما، وخدم الكرة المصرية).
اليوم ... وبعد عشرات السنين على مرور النكسة، يحاول النظام المصري أن يحول جيل يناير الذي ثار ضد الظلم إلى جيل مثل جيل النكسة !
هل يمكن أن يتحقق ذلك؟
كل شيء ممكن، ولكننا لن نترك هذا الجيل فريسة لهذا النظام.
هناك قواعد لا بد أن يعرفها كل من يريد أن ينجز شيئا في هذه الحياة، أولها أن اليأس ظاهرة طبيعية، وهو عبارة عن مرض، وهو مرض لا يسلم منه أحد، فلا بد أن يصاب به المرء في يوم ما، وليس عيبا أن تصاب بدور يأس، تماما مثل دور الزكام أو الأنفلونزا.
ولكل مرض عضو يصيبه، هناك أمراض تصيب الجهاز التنفسي، وأخرى تصيب الجهاز الهضمي، أو القلب ... الخ
اليأس مرض يصيب الإرادة !
وإذا أصيبت الإرادة بمرض اليأس فإنها تتكاسل، ومن الممكن أن تتوقف عن العمل في لحظة ما، هذه اللحظة من الممكن أن يُقدِمَ الإنسان فيها على أي شيء، ولا عاصم للمرء من هذه الحالة إلا الله سبحانه وتعالى.
الإرادة شيء يشبه (العَضَلَة)، من الممكن أن تصاب بشدٍّ، أو حتى بتَمَزُّق !
ولكن ... هناك تدريبات لعَضَلَة الإرادة، وطرق وقاية تحميها من الأمراض، والتمزُّق، وترفع مناعتها ضد أي هجوم جرثومي من اليأس.
الإرادة تتغذى على التحديات، فلو أنها عَضَلَة، فالتحديات عبارة عن تدريب يقوي هذه العَضَلَة، مثل الجري لعضلات الرجلين، أو الجمباز لعضلات الظهر، أو التنس للذراعين والكتفين ... الخ
لذلك فإن أول طرق إصابة الإرادة بجرثومة اليأس هي عدم خوض التحديات لفترة طويلة، وليس الفشل !
وهذا قد يفسر لك جزء من ظاهرة انتحار أناس يعيشون حياة سهلة رغدة في بعض الدول الغنية.
الفشل أشبه بالإصابة بتمزق أثناء الجري، أما اليأس فهو أشبه بتمزق يصيب إنسانا من قلة النشاط، من الكسل، ثم بنشاط مفاجيء مثل أن يجري مسافة طويلة فجأة !
الفشل يؤدي أيضا إلى إصابة الإرادة باليأس، خصوصا الفشل الكبير، أو الفشل المتكرر، وكذلك الفشل الجماعي (مثل الحالة التي يعيشها بعض شباب مصر الآن)!
كيف إذن نقاوم أو نقي أنفسنا من هذه الجرثومة؟
بتدريب عضلة الإرادة !
وكيف ذلك؟
هناك آلاف الاقتراحات، ولكن الفكرة الأساسية تكمن في خوض تجارب على عكس هوى النفس، وكل شخص يعرف ذاته.
الحياة الروتينية تقتل الإرادة، لذلك لا بد من تغيير، وكل يعرف ما يناسبه من تحديات.
إذا كنت محتاجا لإنقاص وزنك، فأنقص وزنك، ولا تتكاسل، خض هذا التحدي، وانتصر على نفسك، وتأكد أنك حين تبدأ سيتغير كثير من عناصر حياتك، أثناء عملية التحدي، وبعد نجاحك فيها أيضا.
إذا كنت ممن يحبون الماء الدافئ في الشتاء ... تجرأ ... وخذ القرار الصعب، واكسر روتينك دون أن تؤذي نفسك.
إذا كنت من الذين يستثقلون الرياضة، ابدأ بممارستها.
إذا كنت ممن لا يقرأون، ابدأ بتخصيص جزء من وقتك للقراءة.
هذه الأمور الصغيرة تضمن لك البقاء على قيد النجاح، وتقلل من احتمالات أن يلتهمك أي فشل مؤقت، في الحياة الخاصة أو العامة.
من أسوأ المراحل التي يمر بها الشباب اليوم مرحلة ما بعد الدراسة الجامعية، لأن غالبية الشباب في مصر والدول العربية يخرجون من سنوات طوال مروا فيها بتحديات الدراسة المستمرة، عاما بعد عام ... ثم يفاجأون باستراحة إجبارية لعدة شهور أو عدة سنوات نظرا لعدم توفر فرصة العمل المناسبة.
هذه الفترة من عمر شبابنا خطيرة للغاية، ومن الممكن أن تسبب تشوهات في الشخصية قد تستمر حتى بعد أن يحصل الشاب على عمل.
من الممكن أن يصبح المرء – بسبب هذه التجربة – جبانا، غير قادر على أي مخاطرة، يخاف على لقمة العيش، يقبل الذل من أجلها، يُقَيِّمُ الأمور بنظرة مادية نفعية لحظية، لا ينظر إلى مآلات الأمور، يستعجل قطف الثمرة ... الخ.
لذلك لا بد من تدريب الإرادة في مثل هذه الفترات (أعني فترات الإحباط) بشكل مستمر، وأن لا يستسلم المرء لأي إحباط عارض في حياته.
التدريبات الجماعية للإرادة هي أفضل التدريبات على الإطلاق !
ولكن إياك أن تسمح بأن تتحول مجموعة المتدربين إلى مجموعة من اليائسين، يُعْدي بعضُها بعضا.
للأسف الشديد ... رأيت مجموعات ثورية تحولت – بفضل حالة اليأس – إلى مجموعات تُنَظِّرُ لليأس، وتُفَلْسِفُ الانبطاح، وكلما حاول أحدهم النهوض من هذا الفخ يشده الآخرون إلى حالة اليأس، ووصلت درجة وقاحة يأسهم إلى أنهم أصبحوا دعاة لليأس والإحباط بعد أن كانوا دعاة للثورة والأمل، وأصبحوا يعادون من يدعو الناس للعمل أكثر مما يعادون من يغتصب السلطة ويظلم الناس، ويصادر حقوقهم السياسية من أجل يبقى في الحكم.
أسوأ أنواع اليأس هو اليأس الجماعي، وأسوأ أنواع اليائسين هو الذي يعتبر نشر يأسه رسالته المقدسة في الحياة، وعقله الباطن يدفعه لذلك لكي يبرر لنفسه استسلامه.
لو طبقنا هذا الكلام على حياتنا الآن ... سأقول:
إن كثيرا من الشباب الثوري قد وصل لحالة يأس ندعو الله أن يعينه عليها، ولكنه ينشر يأسه بطريقة لا تليق، ولا تجوز.
ستراهم يقولون لك إن "لينين" و"غاندي" و"مانديلا" ... كلهم قد نَظَّروا للهزيمة، وكان هدفهم استعادة النصر!
والحقيقة أنها مقارنات غير صحيحة، ولو أن من يحاولون إغراقنا في الهزيمة قد بذلوا عشر ما بذله هؤلاء من أجل أفكارهم، أو ضحوا ربع ما ضحت هذه الشعوب من أجل حريتها ... لكنا قد قبلنا المقارنة.
كل هؤلاء حين كتبوا ما يظنه البعض (فقه الهزيمة) كتبوه وهم في ميدان المعركة، ولم يكتبوه وهم جالسون (على الكنبة) !
أما الإسلاميون الذين يحاولون أن يقنعوك بالهزيمة على سنة الله ورسوله، فهؤلاء أمرهم مضحكٌ مبكٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه : "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا"!، ولست أصدق أن هنالك أشخاصا يتخذون من هذا النبي قدوة ومرجعية يعتنقون اليأس مذهبا، ويروجون له سبيلا !
خلاصة القول: نحن في أيام صعبة، ولكنها لن تطول، ولا تصدقوا من يقولون لكم إن قدرنا الذل، والعبودية.
سينتهي هذا العصر الأسود، والبشارات كثيرة، يراها من لا تعميه قسوة اللحظة الراهنة.
أما من يإس فأقول له : ليس عيبا أن تيأس، واليأس (ليس خيانة) كما يقولون، بل الخيانة أن تنشر يأسك، وأن تروِّج إحباطك، وأن تعمم حالتك النفسية على الآخرين.
من نعم الله على مصر ... أن كل شخص يائس يقابله خمسة من المتفائلين الجدد الذين انضموا للحراك الثوري، إنهم متفائلون صغار، شاهدوا الثورة من شرفات منازلهم في عام 2011، واليوم يقودون الشارع، ويحركون الجماهير، يقدمون الشهداء، والمصابين، والمعتقلين!
لن نسمح بدخول هذا الجيل هذه الحالة (حالة النكسة) ... لأننا نريد أن نصل كأس العالم، وأن نتأهل للأدوار النهائية بإذن الله !!!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين .