تحية طيبة صديقي ياسين،
أنت الآن في السجن. ربما تقرأ هذه الرسالة قريباً أو بعد حين. لكن يجب أن أكتبها الآن.
يجب أن أقول إني لم أفاجأ عندما قرأت في أحد التقارير الإخبارية هذا الأسبوع أن "هيئة المحكمة العسكرية في تونس حكمت بالسجن سنة مع النفاذ العاجل على المدون التونسي ياسين العياري، بتهمة المس بمعنويات الجيش الوطني والحط من المؤسسة العسكرية".
لو كنت قيادياً في نقابة أمنية، يمكن لك أن تعرض حياة جنودنا إلى الخطر المحدق بالتصريح على التلفاز مباشرة عن أسرار عسكرية، فلن تتعرض بالتأكيد للمضايقة دع عنك السجن. لكن إلى ذلك الحين يجب على بقية المواطنين العاديين أن ينتظروا السجن إذا كتبوا نصاً في فيسبوك. بالمناسبة ربما لم تسمع بذلك. صفع أمني أحد المحامين منذ أسبوع أمام المحكمة الابتدائية بسوسة. جن جنون المحامي وعندما تعرف الأمني على صفته المهنية إجابه بكل جدية: "كنت أتصور أنك مواطن عادي".
تخيل ياسين، بعد
الثورة والدماء والعذابات والدستور الجديد أصبح المواطن العادي يتميز أخيراً بأن له الحق في أن يُصفع من أمني.
عجزت أن أفسر الأمر لأحد الأصدقاء الغربيين، حيث لم يستطع فهم الحكم. بعد أيام قليلة من الحادثة الإرهابية في باريس بداعي "التهجم على الذات المقدسة"، ولأن صديقي هذا يعرف أن ثورة حدثت في تونس، ولأنه لم يسمع بسطوة لجيشنا مثلما حدث في
مصر، لم يستطع هضم الطابع المقدس للمؤسسة العسكرية التونسية الظاهر من الحكم. سألني صديقي هذا: "ما هي الأشياء الخطيرة التي دونها ياسين حتى تحط من معنويات عموم الجنود التونسيين؟ هل يتعلق الأمر بنص يشبه نصوص العناصر الإرهابية يكفرهم ويدعو لذبحهم عن بكرة أبيهم؟"
الإرهاب ضد الجيش الوطني؟ ياسين العياري يعرف قبل غيره معناه وهو الذي استشهد والده العقيد الطاهر العياري في أول عملية إرهابية واضحة المعالم بعد الثورة في ماي 2011. نعم يمكن اتهام الإرهاب بمحاولة المس بمعنويات جيشنا خاصة بعمليات استعراضية فيها تشفٍ، مثلما حدث في شهر رمضان لسنتين متتاليتين. ورغم ذلك أبدى جنودنا الكثير من رباطة الجأش وهم يحاولون التأقلم مع هذا النوع من الحروب التي لم يتدربوا عليها خلال عقود من التهميش، خلال منظومة الاستبداد والفساد. فهل لنصوص نشرت على فيسبوك فيها نقد أقل بكثير من الاتهامات والتشويه للقائد الأعلى للقوات المسلحة من على منابر التلفزات والصحف والإذاعات خلال ثلاث سنوات أن تحط من معنويات المؤسسة العسكرية.
هناك طرف آخر مارس المس بمعنويات جيشنا، وحاول الحط من مؤسستنا العسكرية. بن علي نفسه. من خلال تهميشه هذه المؤسسة وتحويلها إلى ملحق في مؤسسات الدولة الحاملة للسلاح وجعل ميزانتيها ضعيفة، وأوقف تسليحها بشكل فعال وعطل تدريبها بما يجعلها قادرة على التطور. منظومة الاستبداد والفساد هي المتهم المثالي في أي تهمة تتعلق بمعاني المس والحط من جيشنا بشكل خاص ومؤسسات الدولة وهيبتها بشكل عام.
عدت إلى المراسلات الأولى بيننا في ربيع 2010. كنت ألومك على اندفاعك، لكن تلك خصلة حميدة أحياناً. عندما فكرنا في "المسيرة ضد الحجب" أتذكر أنك كنت من بين من تطوع لتقديم طلب الترخيص من وزارة الداخلية آنذاك، رغم أنك كنت تدرك أن ذلك سيكون مقدمة لاعتقالك، وهو ما حصل ليلة التاريخ المقرر للمسيرة يوم 22 ماي 2010. ثم لقاءاتنا ومراسلاتنا في ذلك الصيف الحارق، حيث كنا نشعر أننا إزاء وضع جديد أصبح فيه المواطنون العاديون عبر وسائل افتراضية قادرين على زعزعة دولة البوليس. لا يعرف كل من يحن لتلك الدولة أن صفة "المواطن العادي" تبعث على الفخر، أن نكون شعب المواطنين انتصاراً على مفهوم الرعية واستتباعاتها العبودية.
قبل أسبوع، ربما شاهدت ذلك في زنزانتك، جرت محاولة لتطبيع التعذيب على التلفاز أمام الجميع. يريد البعض عوض مسار العدالة الانتقالية أن يشعرنا أن التعذيب مسألة تستحق الهزل والضحك. يتم جمع أحد الجلادين مع ضحيته يتشاكسان بعض الشيء، يقولان بعض النكات، نضحك جميعاً، ثم يأتي مهرج آخر لنضحك أكثر. الصفع والتعذيب عاديان للمواطنين العاديين.
يجب أن أفصح إليك بأمر مهم ياسين: أكلتني مع غيري الممارسة الروتينية لسلطة شكلية والآن يمكن أن أرى حقيقة عنيدة، وهي أن الترسانة القانونية لمنظومة الاستبداد التي لم نغيرها بداعي أننا كنا في مرحلة انتقالية ستفرمنا جميعاً. كلنا وهنا، أعني قبل المواطنين العاديين من يعتقدون أنهم غير عاديين. لم نقف بالقوة والوضوح اللازميين عدا بيانات يتيمة ضد محاكمة أيوب المسعودي منذ سنتين، الذي كان في وضع مشابه لوضعك. ورغم تنصيصنا على عدم تعريض المدنيين للحكم العسكري في الدستور، فلا شيء يمكن أن يتغير بفصل يتيم في الدستور.
ورغم ذلك فإن ما يحدث ليس دليلاً على أن هذه معركة خاسرة. ببساطة نحن رجعنا إلى مربع بدائي في مسار هذه الثورة. مربع الحريات. أفق هذه المعركة هو محاكمة -في يوم من الأيام- كل من يمس بمعنويات المواطنين العاديين، ويحاول الحط من مؤسساتهم الدستورية.