قضايا وآراء

"الشفافية" في فضيحة التعذيب الأميركية

1300x600
قبل نحو أسبوعين أصدرت السلطات في كوريا الشمالية، قرارا يحظر على مواطنيها، استخدام اسم زعيمها الحالي "كيم جونغ-أون" وألزم القرار المواطنين، الذين يحملون اسم "الزعيم "باستبدالها بأسماء أخرى، ومنع تسمية المواليد الجدد باسمه، في إطار النهج المتبع لتمجيد الزعيم! وهو نهج متوارث من الزعيمين السابقين كيم إيل- سونغ وكيم جونغ-إيل.

هذا لا يحدث في دولة أخرى في عالم اليوم، لكن كوريا الشمالية التي لا تكف الولايات المتحدة عن  اتهام نظامها، بالديكتاتورية وخرق حقوق الإنسان، وجدت فرصة ذهبية لـ"تعيير" أميركا وإدانتها، بعد  تقرير الكونغرس الأميركي، الذي صدر قبل أيام حول تقنيات التعذيب الوحشية، التي استخدمتها وكالة المخابرات الأمريكية "س أي إيه"، خلال عمليات التحقيق مع المشتبه بعلاقتهم بالإرهاب، بعد هجمات 11 سبتمبر.

بل إن خصوم واشنطن السياسيين على المسرح الدولي، وفي مقدمتهم إيران وروسيا بالإضافة إلى كوريا الشمالية، لم يفوتوا هذه الفرصة في مهاجمة الولايات المتحدة واتهامها بالازدواجية والنفاق، فهي تنادي بضرورة احترام حقوق الإنسان، وتصنف دول العالم والجماعات والمنظمات المختلفة بين أشرار وأخيار، لكنها تقوم  بممارسات وانتهاكات مخجلة وممنهجة، في ظل "الحرب على الإرهاب"، كالتي وردت في تقرير الكونغرس! وهي بذلك تشكل "نموذجا للطغيان ضد البشرية"!

واتسعت الإدانات وردود الفعل الدولية، إلى المطالبة بمحاكمة المسؤولين عن  عمليات التعذيب، لكن "لا حياة لمن تنادي"، فالمسألة تتعلق بأقوى دولة في العالم، التي تجيز لنفسها ما لا تسمح به لغيرها، ومن ذلك أن واشنطن كانت تشترط على الدول، التي تتواجد قوات أميركية فيها، بصفة احتلال أو على شكل قواعد عسكرية، أن يتم استثناء جنودها من المساءلة القانونية، بشأن أي تجاوزات يرتكبونها، كما حصل في العراق وأفغانستان! 

والواقع أن تقرير الكونغرس لم يكشف سرا، ذلك أن عمليات التعذيب التي ارتكبتها القوات الأمريكية وأجهزتها الاستخبارية، وبخاصة منذ إطلاق ما سمي "الحرب على الإرهاب" من قبل إدارة بوش 2001، كانت معروفة ونشر حولها تقارير ومعلومات كثيرة، كما حصل في سجن أبو غريب في العراق، وسجن باغرام في أفغانستان "الذي أغلق قبل أيام" ومعتقل غوانتانامو الشهير على الأراضي الكوبية، و"السجون الطائرة "! حيث كانت تجري عمليات التعذيب بحق مشتبهين، على متن طائرات، أو في دول  عربية وأجنبية تعاونت مع واشنطن في هذا المجال، باعتبار أن  القانون الأميركي لا يجيز التعذيب على الأراضي الأميركية، وقد اعترفت العديد من الدول بتعاونها مع واشنطن في تسهيل ارتكاب هذه الجرائم، وبعضها الآخر زعم بأنه خدع، ودول أخرى التزمت الصمت! وكان خالد  شيخ  محمد، الذي يوصف بأنه العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر،أشهر المعتقلين الذين قهروا تقنيات تعذيب "سي آي إيه"، حيث تعرض للإيهام بالغرق 183، وتمكن من تجاوزها بنجاح.  

تقرير الكونغرس يشكل فضيحة سياسية للولايات المتحدة، وهي رغم اعترافها بالخطأ وتعهد الرئيس اوباما بعدم تكرار  هذه الأساليب، لأن واشنطن  ترفض إجراء تحقيق جنائي وتقديم المسؤولين للمحاكمة، لكن للتقرير جوانب ايجابية، لعل أهما الشفافية في التعامل مع الفضيحة، حيث استمرت التحقيقات البرلمانية حول هذه القصة سنوات عديدة، ولو كان الأمر يتعلق بدولة عربية، لتم لفلفة الموضوع وإيجاد تبريرات سخيفة له، ولو أن جدران السجون والمعتقلات والزنازين في العديد من البلدان العربية  تتكلم، لروت مجلدات  عما يجري داخلها من عمليات تعذيب وحشية لانتزاع اعترافات، وإذا كانت السي أي إيه رتبت جرائم التعذيب بحق مواطنين أجانب، فإن الكارثة ما تقوم بها أجهزة الاستخبارات والأمن العربية، ترتكب  جرائم التعذيب والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان بحق مواطنيها! وهل يمكن نسيان مشهد عملية فض اعتصام ميداني رابعة والنهضة في مصر بالقوة العسكرية، وما نتج عن ذلك من قتل وجرح وترويع آلاف الأشخاص، وغير ذلك من عمليات قتل طالت الكثيرين ممن احتجوا سلميا على وقوع انقلاب عسكري، فضلا عن اعتقال عشرات الآلاف بشكل عشوائي، وتعرضهم لعمليات تعذيب منهجي، وكانت إحدى أفدح الممارسات الوحشية بحق المعتقلين مجزرة "سيارة الموت" في أغسطس 2013، حيث قتل 37 سجينا من رافضي الانقلاب، بإطلاق قنابل الغاز عليهم بعد احتجازهم لمدة تزيد عن 6 ساعات، في "عربة الترحيلات" التابعة للشرطة خارج سجن أبو زعبل!

وفيما تصدر قرارات عن القضاء بالجملة ضد رافضي الانقلاب، وخلال محاكمات مسرحية، مثل الحكم بإعدام  683 شخصا في جلسة واحدة، صدرت أحكام مخففة بحق من ارتكبوا مذبحة أبو زعبل، تتراوح بين الحبس 3-10 سنوات مع إيقاف التنفيذ!

 وأمام هذه المجازر الجماعية ضربت سلطة الانقلاب عرض الحائط  بكل التقارير، التي صدرت عن منظمات حقوقية دولية، تؤكد وتدين ارتكاب السلطات المصرية انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، والقيام بعمليات تعذيب وحشية، وعليه فإن فضيحة التعذيب الأميركية، تبدو نكتة أمام ما تشهده بلادنا العربية من انتهاكات لحقوق الإنسان، وعمليات اعتقال تعسفي وتعذيب جسدي ونفسي!