كتاب عربي 21

بنغازي إلى دمار.. فما الذي يمنع وقف الحرب؟

1300x600
قرار الحرب المدمرة في بنغازي لم يكن قرار اللواء حفتر وحده، فما كان يمكن لحفتر أن يأخذ هذه المساحة من المناورة والفعل العسكري وتوسيع القتال، ونقله من مواجهات مباشرة بالسلاح الخفيف والمتوسط خلال الأسبوعين الأولين من حملته العسكرية إلى حرب مفتوحة خارج بنغازي وداخل أحيائها المكتظة بالسكان، وتستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة الثقيلة والطيران ويكون لها تلك الأثار المدمرة، لولا التأييد الشعبي من داخل بنغازي ومن المدن المحيطة بها. وقد نجح حفتر في نقل مسؤولية الحرب وتبعاتها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية إلى الرأي العام بمختلف مكوناته، حيث حظيت عملية الكرامة بدعم شعبي واسع في مدن الشرق كافة. ويتضح اليوم مدى الدعم والاستعداد للتأييد إلى نهاية المطاف، بغض النظر عن النتائج.

السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، لماذا يستمر التأييد للعملية العسكرية في بنغازي، أو ما يظهر أنه قبول بنتائجها، برغم كارثية هذه النتائج؟

الإجابة تتداخل فيها عوامل عدة، لكن تبرز بعض الأسباب التي نرى أنها تأتي في مقدمة عوامل استمرار حالة التأييد أو القبول بنتائج الحرب وهي:

-الاعتقاد الجازم بأن من يقاتلهم حفتر "خوارج"، وأن خطر الخوارج ماحق ويهون في سبيل القضاء عليه فعل أي شيء، وقد ساهم في الوصول إلى هذه الدرجة من اليقين ليس فقط الإعلام المحلي وأخطاء منتسبين لمجلس شورى ثوار بنغازي، بل كان لمردود الساحة الإقليمية، وبالتحديد ممارسات تنظيمات متشددة أثر مباشر في تشكيل هذا الموقف.

-عدم قناعة قطاع كبير من الرأي العام الليبي بإمكانية وجود بدائل أخرى للقضاء على "الخوارج" أو عودة الأمن والأمان لبنغازي، ويعود هذا إلى عدم قدرة قطاع كبير من الرأي العام على استيعاب جدوى أو فاعلية أي بدائل غير القوة، وهي مسألة تعود للظروف السياسية والثقافية التي حكمت تشكيل العقل الليبي خلال العقود المنصرمة، وأيضاً إلى أخطاء وممارسات تورطت فيها القيادات السياسية التي تصدرت المشهد منذ فبراير 2011.

-تسهم الدعاية المبرمجة لعلمية الكرامة في الحفاظ على الدعم الشعبي، وتتأسس دعاية عملية الكرامة على تضخيم خطر "الخوارج" من جهة، وطمأنة الرأي العام فيما يتعلق بقدرة حفتر على إنجاز المهمة، وأيضاً التأكيد المستمر على مقولة أن الجيش يسيطر كلياً وأن الحسم مسألة ساعات أو أيام معدودات تجد قبولاً برغم تأخر الحسم أشهراً. 

-هناك أزمة فكرية لها انعكاساتها في الخطاب والممارسة لدى بعض مكونات مجلس شورى ثوار بنغازي، يضاف إليها فشل المجلس في أن يتواصل مع الرأي العام بخطاب عقلاني، ويقارب الليبيين بشكل مباشر ومركز وموضوعي للرد على الاتهامات والشبهات كافة، وفي مقدمتها ملف الاغتيالات، وملف القتل المروع الذي يأخذ شكل الذبح بحيث ترسخ هذا في ذاكرة الرأي العام، فأوصل هذا الفشل إلى الاعتقاد بأن عناصر المجلس، خصوصاً منتسبي أنصار الشريعة، بالفعل متورطون في هذه الجرائم. يضاف إلى ما سبق فشله في طرح وترويج رؤية مقبولة للخروج من الدائرة المفرغة، التي تجاوز عمرها ثلاث سنوات.

-غياب أي جهد أو مسعى محايد أو من المبرزين ممن يناصرون أطراف الصراع لأجل التحذير من مخاطر الحرب الراهنة، وإبراز آثارها الخطيرة التي تتعدى خراب العمران إلى تشويه ذاكرة وتكريس الكراهية وتجذيرها، إلى درجة أن صار كل شيء مبرراً لدى طرفي النزاع لأجل النيل من الآخر وتحقيق النصر عليه. فبرغم خطورة الوضع في المدينة، وبالرغم من استفحال الاستقطاب والاصطفاف، بحيث غاب الصوت الثالث والخيار الثالث، لم تظهر جهود مدعومة من أطراف ومكونات سياسية أو اجتماعية أو مجتمعية، أو مساعي يشرف عليها كل من سبق ذكرهم، لأجل طرح بديل يوقف الدمار، ويتصدى لماكينة الموت التي تحصد أعداداً غير قليلة يومياً من المتقاتلين والمدنيين.

والخلاصة أن الحرب المدمرة - التي ستحيل بنغازي إلى خراب لا محالة - لن تنتهي باختيار الطرفين، فكلا الطرفين مستميت على موقفه وتتوفر له مقومات الاستمرار في القتال لأسباب ومبررات تم تناولها في مقالات سابقة، لكنها ستتوقف بإرادة الرأي العام في المدينة الذي قد ينحاز لخطاب ومبادرات نخب، ومكونات تطرح بديلاً ينهي المأساة الراهنة ويعالج بشكل جذري مخاوف قطاع كبير من سكان بنغازي وأسباب قلقهم.