مقالات مختارة

قوى الثورة المضادة تتوحد… فماذا عن الحركة الإسلامية؟

1300x600
كتب سعيد الشهابي: إذا جاز تحديد انطلاق الصحوة الإسلامية المعاصرة التي تعتبر حاضنة ما يسميه الغربيون "الإسلام السياسي" بمطلع السبعينات، فإن ما تعانيه الفصائل الإسلامية التي ارتبطت بتلك الظاهرة اليوم يعتبر من أخطر المحن وأشدها تهديدا ليس لمشروع الحكم الإسلامي فحسب، بل لآمال الشعوب العربية في تحقيق حياة كريمة تتوفر فيها الحرية والحكم العادل. فالإسلام السياسي خطر على جهات ثلاث:

أولها: الاستبداد السلطوي الذي حكم العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، ثانيها: الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وثالثها: الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية على المنطقة. 

تتمثل المحنة الحالية بتعرض كافة الحركات الإسلامية لأبشع اشكال القمع من قبل تحالف تشترك فيه الجهات الثلاث المذكورة، الانظمة والاحتلال والغرب. وفي هذه الحرب الشرسة لا توفر اية وسيلة دنيئة للاستخدام ضد الظاهرة الإسلامية. وربما الوسيلة الاخطر توفير بديل ايديولوجي ديني يتناقض في ممارساته مع الحركة الإسلامية المستهدفة واخلاقها وقيمها واهدافها. فقد استبدلت العناوين العديدة المرتبطة بمشروع الإسلام السياسي بشعارات اخرى، تبدو للبسطاء متشابهة ولكنها تنطوي على أبعاد مختلفة. فمن شعارات الحركات الإسلامية، على تعدد فصائلها وانتماءاتها المذهبية: 
الحرية، العدالة، الحكومة الإسلامية، الحاكمية لله، الإسلام هو الحل. أما البدائل المطروحة حاليا فلديها شعارات منها "تطبيق الشريعة" و"رفع راية الجهاد" و"مواجهة البدع" و"قتل المشركين". والفرق شاسع بين مضامين تلك الشعارات. فمشروع الإسلام السياسي يهدف لإقامة نظام سياسي يحقق قيم الحرية والعدالة والشورى والكرامة واحترام الحقوق الشخصية، ولا يستعجل بتطبيق الحدود الا بعد أن تتوفر الأهداف الأولى. أما البديل الذي أصبح يعرف بـ "الإسلام الجهادي" من قبل الغرب فيبدأ معكوسا على أساس العودة إلى "سيرة السلف الصالح" بقطع الرؤوس وبتر الأيدي والجلد وغير ذلك من أساليب الإكراه.

ويلاحظ أن الغرب تعايش طويلا مع التطبيق الصارم لتلك الحدود في غياب الحكم الإسلامي على صعدان السياسة والاقتصاد، بل تحالف مع أشد الانظمة التي تمارس ذلك. ولكنه لم يستطع التعايش مع مشروع الإسلام السياسي الذي وفرت له الثورة الإسلامية في إيران مناخا للظهور، وفرصة للتطبيق والتطوير التدريجي. 

ولذلك شنت الحرب على ايران منذ ان اتضحت معالم نظامها الجديد. فقد بدأت باستفتاء الشعب حول الحكم الإسلامي، وكتبت دستورا تم التصويت عليه، وانتخبت برلمانا وفق ذلك الدستور، وطرحت "ولاية الفقيه" لرعاية المشروع وضمان استقامته مع الشرع الإسلامي. أما الحركات الإسلامية فقد سعت، عبر الوسائل السلمية، للوصول إلى الحكم طوال العقود الثلاثة الماضية، معتمدة على كياناتها التنظيمية التي شكلتها في العقود السابقة، ولكنها قوبلت بعداء شديد وحملات شعواء من قبل التحالف الثلاثي: أنظمة الاستبداد والكيان الإسرائيلي والدول الغربية.

يمكن القول إن عاما واحدا من عمر هذه الأمة ترك من الآثار والتبعات ما لا يقل عما أحدثته ثورة إيران قبل ذلك بثلاثة عقود. فثورات الربيع العربي أوصلت الرسالة واضحة للتحالف المذكور: إن الأمة حبلى بالمفاجآت وأن رحمها قادر على إنجاب أجيال من المطالبين بالحرية والعدالة على خطى الإسلام ومن وحي تعليماته. فاذا بهذه القوى تحيل ذلك الربيع خريفا، وتشن واحدة من أشرس الحملات السياسية والأمنية والايديولوجية ضد مشروع الإسلام السياسي. ففي السابق لم تكن هناك جرأة على استهداف الصفوف الأولى من قيادات الحركات الإسلامية، ولكن هذه المرة اختلف الأمر تماما، فقد تحول الصراع إلى حرب وجود بلا حدود.

والسؤال هنا: هل كانت هناك مؤشرات لما سيحدث للثورات عندما كانت جماهير الأمة تهتف بملايينها في العديد من العواصم العربية: الشعب يريد اسقاط النظام؟ وهل كانت قيادات التحرك الشعبي في تلك البلدان تدرك ان أقذر الاسلحة سيستخدم ضدها متمثلا بـ "الطائفية"؟ الأمر المؤسف أن أيا من تلك القيادات لم يتوقف عند حادثة مهمة تمثل، في نظر كاتب المقال "بروفة" لمشروع الثورة المضادة التي ستنقلب لاحقا ضد كافة الثورات لإجهاضها بدموية مفرطة. في منتصف شهر آذار/ مارس 2011 عبرت وحدات من الجيشين السعودي والاماراتي الجسر الذي يربط بين البحرين والسعودية، لهدف واحد: ضرب الثورة البحرانية التي كانت نسخة أخرى من ثورات الربيع العربي الموؤود.

وفي غضون 48 ساعة استهدف "دوار اللؤلؤة" الذي كان نقطة التجمع المركزية لشباب الثورة، على غرار "ميدان التحرير" في القاهرة و"ساحة التحرير" في صنعاء. اختفت معالم الثورة أياما وسط صمت إعلامي عربي رهيب، وغياب اي صوت إسلامي ضد دخول تلك القوات إلى المنامة، الامر الذي اعتبره شباب ثورة البحرين "احتلالا" لا يختلف عما فعلته القوات العراقية في الكويت قبل عشرين عاما سابقة، او ما فعله الاتحاد السوفياتي باجتياح افغانستان "بناء على طلب رئيسها آنذاك، بابراك كارمل". يومها اتضح لبعض المحللين ان هناك "ثورة مضادة" تستهدف الثورات وأن أيا منها لن يكون محصنا عنها.

وباستقراء ما حدث لاحقا لكافة الثورات العربية يمكن اكتشاف مصاديق لهذا التدخل. المشكلة أن قوى الثورة المضادة استطاعت غرس بذور الشقاق بين أبناء الأمة وفق خطوط التمايز المذهبي، فقالت إن ثورة البحرين "طائفية" وصدقها الكثيرون. فما الذي حدث لاحقا؟ لعل التدخل الأبرز كان ما حدث في مصر بعد ثلاثين شهرا تقريبا. فقد حدث الانقلاب العسكري في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي لإسقاط حكم الإخوان. 

جاء ضرب الإخوان في مصر بشكل موجع وشبه حاسم. فلم تحدث ضجة حقيقية ضد ذلك إلا بأصوات خافتة. وحتى فصائل الإخوان في الدول العربية التزمت الصمت فيما كان المرشد العام ومساعدوه والرئيس محمد مرسي يقادون إلى المحاكم العسكرية وتصدر احكام الاعدام بحقهم. ولم تصدر إلا احتجاجات خجولة في بعض البلدان مثل الأردن. وفي هذا الأسبوع أقدمت الحكومة الأردنية على اعتقال، زكي بني رشيد، نائب المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن عقب اجتماع عقد في ساعة متأخرة من الليل بمقر الجماعة في عمان ليكون ذلك أول اعتقال لشخصية كبيرة بالمعارضة في الأردن منذ سنوات. وقال المدعي العام لمحكمة أمن الدولة انه أمر باعتقاله بتهم "تعكير صفو العلاقات مع دولة عربية شقيقة" بعد أن كتب مقالا يهاجم فيه دور الإمارات في حملة إقليمية على الإسلام السياسي. وكانت الإمارات قد نشرت مؤخرا قائمة بأكثر من 80 منظمة إسلامية تعتبرها "إرهابية". ومن هذه المنظمات مؤسسات تعمل في الغرب، خصوصا بريطانيا وأمريكا.

وإذا كان هذا أمرا متوقعا ومفهوما، فإن ما يثير التساؤل حالة البساطة لدى قيادات الحركة الإسلامية التي تقترب من السذاجة أحيانا في التفكير والتحليل ومعرفة الواقع وصياغة الموقف. ففي الوقت الذي تتعاون أنظمة الاستبداد فيه للتصدي للحركات الإسلامية لإجهاض محاولات التغيير السياسي في العالم العربي، فإن حركات المعارضة تستدرج بسرعة لمواقف وسياسات تفرضها تلك الأنظمة.

فالطائفية مثلا من أشد الأسلحة فتكا بالمشروع الإسلامي، خصوصا بعد أن أحاطته قوى الثورة المضادة بالعنف وسفك الدماء والمشاهد المقززة من الذبح والاسترقاق والتنكيل بالآخر، سواء كان مسلما. ويبدو أن شدة الضربات التي وجهت للحركات الإسلامية المعتدلة دفعتها لمواقف وسياسات "اعتذارية" بعيدة عن المبدئية، فلاذت بالصمت حين كان الموقف يتطلب منها كلاما، وانكفأت إلى الوراء حين كان المطلوب منها أن تتقدم وتتصدى للمؤامرات ضد المشروع الإسلامي، ونظرت إلى ما يجري من المنظور الذي فرضته قوى الثورة المضادة على الواقع السياسي والإيديولوجي، بدلا من العودة إلى الاصول وتحديد الموقف الشرعي في إطار القرآن والسنة اللذين يحرمان التكفير أو الاقصاء أو الانسياق وراء الفتن في أوساط الأمة الإسلامية. مطلوب من حركات الإسلام السياسي، في ظل الحقائق المذكورة، إعادة تقييم مواقفها والعودة إلى الجذور في التفكير والتحليل وتقدير الموقف، وتعضيد مواقفها بالجرأة والتصدي والوضوح والشجاعة في رفض التطرف والعنف والإرهاب، ورأب الصدع بين المسلمين وقطع الطريق على العابثين بأمن الأمة ووحدة أبنائها.

(صحيفة القدس العربي)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع