كتاب عربي 21

تقرير هيومان رايتس ودولة فريد الديب

1300x600

من مشاكل الإسلاميين الدائمة أن أغلبهم يتصورون أن العالم كله يتآمر عليهم، وأن كل ما يحدث في العالم من مؤامرات تحاك ضد الإسلام، الدين والحضارة، وذلك حتى لا تعود بلاد المسلمين إلى صدارة الدنيا، وتقم عزها، وتحيي مجدها، فإذا أخبرتهم بكل الوسائل التي لا تنفي أن يكون ثمة تآمر على المسلمين وبلدانهم ومعتقداتهم إنما فقط تخفف من غلواء الاعتقاد بأن العالم كله يتحرك في فلك المؤامرة عليهم آناء الليل وأطراف النهار رفضوا منك هذا وأصروا على موقفهم ولو أتيتهم بقراب الأرض حججا وبراهين.

هل يختلف موقف الدولة السيساوية الآن عن هذا الموقف السالف؟

قل ما تشاء عن مذبحة رابعة، وستجد طوال الوقت إجابات لا علاقة لها بالسؤال:
شهادات الصحفيين.. كلهم إخوان، شهادات السكان .. متعاطفون مع الإخوان، شهادات المتظاهرين ...كذابون لأنهم إخوان، ... شهادات الحقوقيين ...خدم للإخوان، فيديوهات، وصور، يشيب لها الولدان: ملفقة بمعرفة الإخوان، والآن تقرير واحدة من أكبر المنظمات الحقوقية في العالم موثق بصور الأقمار الصناعية، ومستند في آليات التحقيق إلى مقابلات مع أكثر من 200 شاهد من بينهم المتظاهرون والأطباء والصحفيون والسكان المحليون، بالإضافة إلى ساعات من مقاطع التسجيلات المصورة وتصريحات المسؤولين الحكوميين، كل هذا لا يعني عند النظام شيئا، والرد ببساطة: تقرير سلبي، منحاز للإخوان ..إمبريالي .. مسيس .. خطر على الأمن القومي .. فيه تدخل في شؤون الدولة .. لا يعتد به .. ليس ملزما، مشبوه، يروحوا يشوفوا داعش .. لسنا وحدنا من ارتكب مذابح .. نحن أحسن من غيرنا .. إنها مؤامرة الغرب على مصر ... 

هل يمكن أن يتصور عاقل أن يجتمع كل هذا الغباء والصلف في دولة واحدة ونظام واحد وحقبة زمنية واحدة وإزاء قضية واحدة؟ هل رأيت في حياتك من هم أكثر تخلفا عقليا وسياسيا من السيسي ورجاله وإعلامه ونخبته الفاسدة حين يتصورون أن هذه الحجج التافهة يمكن أن تقنع طفلا صغيرا بأن ما حدث لم يكن جريمة يستحق كل من نفذها المحاكمة والعقاب الرادع؟

حالة الإنكار المرضي عند كل من ينتمون إلى هذا النظام فاقت كل ما كنا نتندر به من إنكار وعدم اعتراف بالحقيقة أو المسؤولية عند الإسلاميين، الأمر الذي وصل إلى تعليق مصادر رفيعة المستوى من الداخلية على تقرير هيومان رايتس بأنه غير مهني ومنحاز ومسيس لأنه تجاهل ذكر شهداء الشرطة، كما أنه لم يشر إلى الخطاب الطائفي على منصة رابعة الذي كان سببا فيما تعرضت له بعض الكنائس من اعتداءات في نفس يوم الفض، والكلام الذي يلوم المسؤول المحترم على تقرير هيومان رايتس عدم وجوده، موجود بنصه كما أورده المسؤول دون نقصان، إلا أن المسؤول بوصفه من الشرطة المصرية، فهو بطبيعة الحال لا يقرأ، لقد عرف من كلام الناس، ومحرري الجرائد، وربما عرف من نفسه أنه ما دام هناك تقرير عن مذبحة رابعة فهناك فضيحة ويجب التستر عليها بمحفوظات وزراة الداخلية فقرر تكرار "الطقم" كله كما لقنوه إياه: شهداء الشرطة، الانحياز، الإرهاب، المسيحيون، الكنائس .. وهلم جرا.

هيومن رايتس ترى أن النظام المصري ارتكب بحق مواطنيه في رابعة وما بعدها أبشع المذابح الإنسانية في التاريخ المعاصر، وتطالب بمحاكمة مسؤولين مصريين من بينهم عبد الفتاح السيسي ومحمد إبراهيم.

وبالمناسبة: إشراف بعض المنظمات الحقوقية الدولية "غير ذات الشأن" على الانتخابات الرئاسية السابقة كان أبرز حجج السيسي وإعلامه على شرعية هذه الانتخابات رغم عدم نزول الناس وخلو اللجان من الحياة طوال مدة التصويت فكيف لهم أن يرفضوا اليوم تقريرا لواحدة من أهم هذه المؤسسات ويعتبروه تدخلا في الشأن الداخلي، أو خطرا على الأمن القومي الذي لم يعد له معنى أصلا، وذلك دون أن يقدموا تقريرا واحدا محترما للمواطن المصري أو لمن يهمه الأمر.

قتلناهم، ولن نقدم مبررات لأحد، قتلناهم بتفويض شعبي، جزء من الشعب فوضنا في قتل الجزء الآخر ونحن فعلنا، وهذا شأن داخلي، ونحن أحرار، ومن لا يعجبه فليخبط دماغه في الحيط، هذا هو مجمل خطاب السيسي ونظامه، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث الذي توجه فيه تهمة بهذه البشاعة إلى رأس الدولة المصرية، وهي تهمة تجعل من السيسي ومحمد إبراهيم وأجهزتهما مرتكبين لجرائم ضد الإنسانية، وليس مستبعدا أن يكون من توابعها تحريك دعاوى قضائية من بعض الدول على ضوء نتائج التقرير، تصل بنا في النهاية إلى تجريم دولي لهذه المؤسسات، ويصبح الجيش المصري على يد السيسي، والشرطة المصرية على يد محمد إبراهيم، لأول مرة في تاريخيهما مؤسسات إجرامية موصومة ومصنفة دوليا بالإرهاب.

الإعلام المصري الغرائبي في تدليسه على القارئ، المحتقر لذكاء المصريين وأحلامهم في حياة كريمة، يرفض تقرير هيومان رايتس، ويعتبرها مؤسسة ليست فوق مستوى الشبهات، ذلك لأنها غربية، والغرب يتآمر علينا، وفي أي عدد من أي جريدة يومية في مصر اليوم، الأهرام على سبيل المثال، ستجد في الصفحة المقابلة لوصلة الردح الوطني لهيومان رايتس تغطية وافية لمذكرات هيلاري كلينتون، واحتفاء وطنيا بدوره بوصفها للرئيس السابق محمد مرسي بـ "الساذج" الذي لم يكن يصلح للحكم، هذه المرة الغرب يفهمنا ونفهمه، يحبنا ونحبه، يشهد لنا بما نريده، فنشد له بالنزاهة وسداد الرأي، الأمريكان هذه المرة لا يدعمون الإخوان، تابوا، ربما لأن حبيب العادلي سجل لهيلاري كلينتون واستدعاها وقال لها عيب، فتاب الله عليها.. عقبى لنا.

 كل الخطابات موجودة، الغرب معنا.. إذن أهلا به في بلادنا وفي مطاراتنا، وفي الإشراف على انتخاباتنا، وعلى صفحات جرائدنا، وعلى شاشاتنا، الغرب ضدنا، إذن فهو الغرب الخائن العميل الأمبريالي الاستعماري، العنصري، المتآمر .. "وكله بالدهلكة".

لا يمكنك أن تفهم أو تعرف أو تجد تأويلا واحدا "ماسك نفسه" أو سببا واحدا ينتمي إلى دائرة الحجاج الإنساني بين البشر وبعضهم البعض لا بين البشر والكلاب البلدي: لماذا يتآمر الغرب على عبد الفتاح السيسي؟، ذلك لأنه رسب مثلا في أول اختبار له في الحفاظ على أمن اسرائيل، وثبت تورطه في الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وإمدادها بالأسلحة عبر الأنفاق والسماح بوصول قوافل المساعدات الإنسانية والدعم المادي والصحي فضلا عن الموقف المشرف للإعلام المصري في عهده في المساندة الإعلامية لغزة، ولذلك يخشى منه الغرب لأنه يهدد مصالحهم في المنطقة بوطنيته وعروبيته وانحيازة للقضية الفلسطينية؟!!!

لماذا يتآمر الغرب على السيسي؟، ذلك لأنه يتبنى مشروعا وطنيا وقوميا من شأنه توحيد الصف العربي ودعم حركات المقاومة ويقف مع حلفائه من السعوديين والإماراتيين الشرفاء بالدعم والتأييد والمساندة للثورات العربية كي تتخلص من الأنظمة الفاشية التي صنعها الغرب وتركها في هذه البلاد وكلاء عنه في الحكم وفي رعاية مصالحه فيها؟!!!

لماذا يتآمر الغرب على عبد الفتاح السيسي؟ لأنه بدأ في اتخاذ خطوات عملية في تحقيق أهداف ثورة بلاده وفتح تحقيقا شاملا وجادا مع رموز الدولة القديمة، وهدد بإعدامهم جميعا في الميادين العامة ثمنا لجرائمهم ما لم يردوا مليارات مصر المنهوبة لتعود إلى أحضان الشعب المصري الذي لم يجد من يحنو عليه؟.

الحق أن مبررات التآمر المزعومة من الغرب على الجنرال لا يمكن أن تستقيم إلا وفقا لمنطق مرافعة فريد الديب عن حسني مبارك، الذي اتضح أنه كان وطنيا، شريفا، مناضلا، ممانعا، ثائرا، مشى مع الغرب 30 سنة ولم يطل الغرب منه "بوسة" واحدة، إلا في الحلال.

إن كل ما تقدمه أبواق المعتمد العسكري اليوم وطباليه من مبررات تافهة مثلهم عن أسباب المؤامرة الكونية على مصر السيسي، هو نفسه ما يقدمه "الديب" في مرافعاته التي أهانت مصر كلها بما تحمل من كذب وتضليل وسخافة، وقرف، وكأن الجميع قد اتفق على فقع مرارة المصريين، اكذب طوال الوقت، وادّعِ العكس طوال الوقت، انكر طوال الوقت، وزايد على الآخرين طوال الوقت، اتهم الجميع بكل ما فيك، واعمل بمقتضى المثل المصري: كلم "الدولة" تلهيك وتجيب اللي فيها فيك، ارمهم جميها بدائك ولا تنسل، فالأرض لك، وما عليها، فسيموت الشرفاء جميعا بالسكتة القلبية.

الحق أن الغرب لا يريد أكثر من عبد الفتاح السيسي، كما أنه لم يكن يوما يريد أكثر من محمد حسني مبارك، والحق أيضا أن الثورة المصرية بدورها لا تريد أكثر منهما.. كي تستمر.