كتب سوسن الأبطح: لا أحد يعرف من هو، حقيقة، الخليفة أبو بكر البغدادي. الرجل أعلن نفسه خليفة وطالب المسلمين بالانضمام إلى دولته الإسلامية الوليدة التي تسعى لاكتساح العالم واستعادة أمجاد الأمة الغابرة.
هل الرجل حي أم ميت؟ ما خُلُقه وما مؤهلاته؟ وهل هو رجل صالح أم مجرد مدعٍ كاذب، ومن يحركه ويدعمه بالمال والسلاح؟ وهل تنظيم «
داعش» هو الذي يقود المعارك في
العراق، وما مكوناته، وما مدى تماسكها؟
الذهاب الأعمى وراء المجهول من قِبَل من فقدوا كل بوصلة جاء سريعًا على صفحات التواصل الاجتماعي التي ضجت بالمبايعة الافتراضية لأمير المؤمنين المنتظر منذ مائة سنة، ورفعت له الرايات سرًا أو جهرًا في دول عديدة بالمنطقة، ولو كلفت البعضَ حريته، أو حتى حياته.
سمعنا أن ثمة أميرًا للبنان أيضا، لا نعرف عنه سوى اسمه الحركي، من دون أن نكشف له وجهًا أو ملمحًا. رجل «داعش» الغامض عبد السلام الأردني، مكلف تدبير التفجيرات وإرسال الانتحاريين، كما أذيع. وعلى «تويتر»، كما العادة، أعلن «لواء أحرار السنة - بعلبك» الملحق بـ«داعش»، عن أمير يدعى سيف الله الشياح، الموكل بـ«إمارة البقاع الموعودة».
وهذا اللواء الذي لا تزال التكهنات بشأنه كبيرة، وحول إذا ما كان موجودًا أصلًا أو مجرد لعبة مخابراتية قميئة، هو الذي كلف مجموعة خاصة من المجاهدين «لتطهير إمارة البقاع الإسلامية بشكل خاص ولبنان بشكل عام من كنائس الشرك». وقال في بيانه، إن «هذه المجموعة ستعمل على استهداف الصليبيين في الإمارة ولبنان لإيقاف قرع أجراس الشرك».
وبعد أقل من 24 ساعة على هذا البيان المشبوه كان اللواء (المفترض) قد أعلن عن الأخ المجاهد أبو عمر الشامي قائدًا للمجموعة، مع صورة ركبت لا لتعريفنا بالرجل، وإنما لإلقاء الذعر في القلوب. فالرجل الملثم الذي يظهر جانبًا من كتفه، وإلى جانبه مصحف وكأنه في داخل غرفة لتصنيع العبوات، خارج من أفلام الرعب أكثر من أي شيء آخر.
وينبهنا أمير البقاع سيف الله الشياح: «لا يعتبر أحد أن إعلاننا الحرب على صليبيي لبنان يغيّر باتجاه بوصلتنا. نحن سنواجه صليبيي لبنان بمجموعة مختصة ومحدودة العدد، أما باقي جهودنا فسوف تكون بمواجهة الطاغوت والرافضة».
ود الدولة الإسلامية المأمولة، وتظهر برنامج غزوات «داعش» خلال السنوات الخمس المقبلة، تخضع في مراكز أبحاث غربية لدراسات وافية، كون الحدود تشمل أيضا الأندلس ودول البلقان، وجزءًا من أوروبا الشرقية.
ومن الطرائف أن ترى محللًا ومتخصصًا مرموقًا فيما بات يسمى «الجهادلوجيا» أو «علم الجهاد»، وهذا صار متوفرًا بفضل «داعش وأخواتها» يعلق على الخريطة ويطمئن المواطنين الأوروبيين المهددين بالغزو بأنها مجرد وثيقة عتيقة مستلة من التاريخ وليست أكثر من نبش لخريطة الدولة العثمانية وحلم باستعادة المجد الغابر. وهنا يؤكد الباحث، وهو المتمرس في قضايا الأحلام الإسلامية، أن هذا الرسم كان متداولًا قبل «داعش»، وجل ما حدث هو تعميمه وتوظيفه.
تصل هلامية «داعش» وزئبقيته إلى حد التشكيك حتى في الصور التي تلتقط لمجاهديه. وانتشرت في الأيام الأخيرة مقالات عديدة في صحف غربية تضع علامات استفهام كبيرة، حول آلاف الصور التي تلتقط وتوزع، لمقاتلي «داعش»، بسحناتهم المغبرة، وهيئاتهم الأسطورية، وخاصة أن مصدرها وكالات محدودة جدًا، أهمها على الإطلاق «رويترز»، التي باتت المنبع الرئيس المعتمد لدى غالبية وسائل الإعلام. دراسة الصور وتفنيدها والمقابلات التي أجريت مع مسؤولين في الوكالة العالمية، زادت من شكوك المراقبين، وخاصة أن الاعتماد في كل من
سوريا والعراق الداعشيتين (حاليًا) هو على مصورين محليين يتم التعاقد معهم مع الالتزام بعدم كشف أسمائهم، لحفظ سلامتهم، من دون معرفة ارتباطاتهم، أو أهوائهم، ومدى مهنيتهم.
يعتمد المشككون على عناصر عديدة، محذرين من الفخ الذي نصب للصحافة في سوريا، وشهير الصور التي انتشرت وعممت وتبين أنها زائفة، ولا شيء يمنع تكرار التجربة نفسها عراقيًا.
لهذا نسأل: بأي عيون يرى العالم «داعش» ومن أي وجهة نظر؟ وما كَمُّ الوهمي من الفعلي؟ ومن المسؤول عن هذا «التسونامي» المرعب من الأخبار والصور والبيانات والأشرطة والإعلان عن أمراء بالجملة؟ هل «داعش» تنظيم سري يتمدد وينتشر؟ أم أنه في جزء كبير منه خدعة استخباراتية باتت بحجم الكون، وخطورتها العظمى أنها أصبحت قادرة على الإيقاع بعشرات آلاف الشبان المسلمين المحبطين والبائسين والمنتظرين للخليفة المخلص الذي يخرجهم من مأساة حاضرهم بكبسة زر وبعض الوعود الكاذبة.
كل عاقل يعلم أن «داعش» كما هي عليه اليوم، لا يمكن أن تقوم له دولة أو حتى إمارة، لكن الكذب والتضليل والوهم الزائف بات بمقدوره، بفضل الجهل والانكسارات المفجعة، أن يفجر المنطقة ويجعلها تتشظى لتصير فتاتا.
(نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط السعودية 5 تموز/ يوليو 2014)